الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ الراوي المستور الحال ] الثاني : المجهول باطنا وهو عدل في الظاهر ، وهو المستور ، فعند أبي حنيفة يقبل ما لم يعلم الجرح ، وعند الشافعي لا يقبل ما لم تعلم العدالة كالشهادة ، وكذا قال الماوردي والروياني وغيرهما ، وممن نقله عن جزم الشافعي أبو الحسين بن القطان ، ونقله إلكيا عن الأكثرين ، ونقله شمس الأئمة عن محمد بن الحسن وقال : نص في كتاب الاستحسان على أن خبر المستور كخبر الفاسق . وروي عن أبي حنيفة أنه كالعدل ، وهو قياس قوله في الشهادة . قال أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل " : ويمكن أن يقال على قوله : لا يحتج به ، وإن قبلت شهادته على جهالة الحال ، والفرق أن في الشهادة [ ص: 160 ] خصما يطالب بالعدالة ، فجاز للقاضي القضاء بشهادته إذا ترك الخصم حقه ، بخلاف الرواية كما قلنا بالاتفاق في الشهادة بالحدود .

                                                      ووافق الحنفية منا الأستاذ أبو بكر بن فورك ، كما رأيت ، نقله الماوردي في كتابه ، وكذا وافقهم سليم الرازي في كتاب " التقريب " ، وعلله بأن الإخبار مبني على حسن الظن بالراوي ، ولأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن ، فاقتصر فيه على معرفة ذلك في الظاهر ، ويفارق الشهادة ، فإنها تكون عند الحكام ، ولا يتعذر عليهم ذلك ، فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن . قال ابن الصلاح : ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم ، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم ، وإلى نحوه مال ابن عبد البر فيمن عرف بحمل العلم ، وسنذكره . قلت : وذكر الأصفهاني أن المتأخرين من الحنفية قيدوا ما سبق عنهم بصدر الإسلام ، حيث الغالب على الناس العدالة ، وأما المستور في زماننا فلا يقبل لكثرة الفساد وقلة الرشاد ، وإنما كان يقبل في زمن السلف الصالح . وقال أبو زيد الدبوسي في " التقويم " : المجهول خبره حجة إن نقل عنه السلف ، وعملوا به أو سكتوا عن رده ، فإن لم يظهر فيعمل به ما لم يخالف القياس . انتهى .

                                                      وهذا تفصيل في المسألة ، وقد جرت عادة ابن حبان في كتاب " الثقات " أن يوثق من كان في الطبقة المتقدمة من التابعين . قال بعض الأئمة : استقريت ذلك منه لغلبة السلامة على ذلك العصر ، مع عدم ظهور ما يقتضي التضعيف ، وقال إمام الحرمين : [ ص: 161 ] يوقف ، ويجب الانكفاف إذا روي التحريم إلى الظهور فتحصلنا على أربعة مذاهب . وأطلق النووي في " شرح المهذب " تصحيح قبول رواية المستور ، وربما أيده بعضهم بأن الشافعي نص على انعقاد النكاح بمستوري العدالة ، فالرواية أولى ، وأنكره بعض الأصحاب ، وقال : قبول رواية المستور إنما تنزل منزلة القضاء بالنكاح ، لا منزلة انعقاد النكاح ، والنكاح لا يقضى فيه عند التجاحد بشهادة مستور ، فكذلك لا تقبل رواية المشهور . وقال القاضي في " التقريب " : إن كان الشافعي قد اعتقد أن شهود النكاح عدول في ظاهر الإسلام فقد ناقض ما قاله في حد العدالة ، ولعله أراد بذلك أن الإسلام أصل العدالة ومعظمها ، وأما أن يكون وحده عدالة فذلك بعيد من قوله . انتهى .

                                                      وجوابه ما ذكر ، وأطلق الشافعي كلامه في اختلاف الحديث " أنه لا يصح المجهول ، وهو الذي نقله عنه البيهقي ، والماوردي ، والروياني وغيرهم . ثم المراد بالمستور من يكون عدلا في الظاهر ، ولا تعرف عدالته باطنا ، قاله البغوي والرافعي وذكر في كتاب الصيام تبعا لإمام الحرمين في " النهاية " أن العدالة الباطنة هي التي ترجع فيها القضاة إلى قول المزكين ، وسبق عن النص في اختلاف الحديث ما يؤيده . وفسر إمام الحرمين المستور بالذي لم يظهر منه نقيض العدالة ، ولم يبق البحث على الباطن في عدالته ، وكلام الأصوليين ومنهم القاضي في " التقريب " صريح في أن المراد بالعدالة الباطنة الاستقامة بلزوم أداء أوامر الله ، وتجنب مناهيه وما يثلم مروءته ، أي سواء ثبت عند الحاكم أم لا . قال القاضي : ولا يكفيه اجتناب [ ص: 162 ] الكبائر ، حتى يتوقى مع ذلك لما يقول كثير من الناس إنه لا يعلم أنه كبيرة ، بل يجوز أن يكون صغيرة كالضرب الخفيف ، وتطفيف الدانق ونحوه .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية