الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ مذاهب العلماء في الرواية بالإجازة ] أحدها : المنع ، وبه قال شعبة ، وقال لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة ، وأبو زرعة الرازي ، وقال : لو صحت لذهب العلم ، وإبراهيم الحربي ، وأبو الشيخ الأصفهاني . واختاره القاضي الحسين ، والماوردي ، والروياني منا ، وأبو طاهر الدباسي من الحنفية ، وقال : من قال لغيره : أجزت لك أن تروي عني فكأنه قال : أجزت لك أن تكذب علي ، وكذا قال ابن حزم في كتاب " الإحكام " . وقال : إنها بدعة غير جائزة . وقال غيره : تقدير أجزت لك أبحت لك ما لا يجوز في الشرع ; لأن الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع . وحكى ابن وهب عن مالك قال : لا أرى هذا يجوز ، ولا يعجبني ، وحكاه الماوردي ، والروياني ، وابن السمعاني عن الشافعي ، يعني ; لأن [ ص: 330 ] الربيع قال : هم الشافعي بالخروج من مصر ، وكان قد فاتني من البيوع من كتاب الشافعي ثلاث ورقات ، فقلت له : أجزها لي . قال : فاقرأها علي كما قرئ علي ، وردد علي ذلك ، حتى أذن الله ، فجلس وقرئ عليه . وسمعناه بعد ذلك ، وتوفي عندنا ، وفي رواية البيهقي عن شيخه الحاكم بزيادة ، يعني أنه كره الإجازة .

                                                      قال البيهقي : كذا في الحكاية ، يعني أنه كره الإجازة . قال الحاكم : فرضي الله عن الإمام الشافعي ، لقد كره المكروه عند أكثر أئمة هذا الشأن ، ثم عاب شيخنا رواية ما أجيز له بأخبرنا وحدثنا ، قال : وبمثله يذهب بهاء العلم والسماع والرحلة . الثاني : - وعليه جمهور السلف والخلف - الصحة ، وحملوا كلام المانعين على الكرامة . قال الخطيب : وقد ثبت عن مالك الحكم بصحة الرواية بأحاديث الإجازة ، فدل على أن منعه إنما هو وجه الكراهة أن يجيز العلم لمن ليس أهله ، ولا خدمه ، ولا عانى التعب ، ولهذا قال : إنما يريد أحدكم أن يقيم المقام اليسير ، ويحمل العلم الكثير . قال : وكذلك المنقول عن الشافعي كراهة الاتكال على الإجازة بدلا عن السماع ، وقد قال الكرابيسي : لما كان قدمة الشافعي الثانية إلى بغداد آتيته ، فقلت له : أتأذن لي أن أقرأ عليك الكتب ؟ قال : خذ كتب الزعفراني فانسخها ، فقد أجزتها لك ، فأخذتها إجازة . قلت : هذا من قوله في القديم ، والأول من قوله في الجديد ، فكيف يقضى للقديم على الجديد ؟ نعم ، المنقول عن الجديد ليس صريحا في المنع . فلا تعارض ، وقد روى الربيع عن الشافعي الإجازة لمن بلغ سبع سنين . والثالث : يجوز بشرط أن يدفع إليه أصوله ، أو فروعا كتبت عنها ، وينظر فيها ، ويصححها ، حكاه الخطيب عن أحمد بن صالح . [ ص: 331 ] والرابع : إن كان المجيز والمستجيز كلاهما يعلمان ما في الكتاب من الأحاديث جاز ، وإلا فلا ، وهو اختيار أبي بكر الرازي من الحنفية ، ونقلوه عن مالك فإنه شرط في المجيز أن يكون عالما بما يجيز ، وفي المجاز له أن يكون من أهل العلم ، فعلى هذا لا تجوز الإجازة بكل ما ثبت أنه من مسموع الشيخ ضرورة أنهما لا يعلمان جميع تلك الأحاديث . والخامس : لا تصح إلا بالمخاطبة ، فإن خاطبه بها صح ، وإلا فلا . حكاه أبو الحسين بن القطان في كتابه " الأصول " .

                                                      التفريع إن قلنا بالجواز فاختلفوا في مسائل . إحداها : هل تجوز مطلقا أو بشرط ؟ فأطلق الأكثرون ، وسبق عن مالك اشتراط علم المجيز والمجاز له ، وعلى هذا قال ابن عبد البر : لا تجوز الإجازة إلا لماهر بالصناعة ، وفي شيء معين لا يشكل إسناده . وقسم إلكيا الطبري الإجازة إلى قسمين . أحدهما : أن يعلم المجاز له ما في الكتاب فله الرواية بها . والثاني : لا يعلم ، ولكن قال الشيخ : أجزت لك أن تروي عني ، فلا تحل الرواية ، إذا كان الكتاب يحتمل الزيادة والنقصان . قال : وإن لم يحتملهما فالمحتمل أن يقال : لا يجوز ; لأنه لم يسمع ، ولم يعلم وإذا كان لا تحل الرواية له إذا سمع ولم يعلم ، فهذا أولى .

                                                      ويحتمل أن يقال : إنه يروي عنه ما صح عنده من مسموعاته توسعة للأمر ، ودفعا [ ص: 332 ] للحرج على تقدير أنه أخبره بما في الكتاب إخبارا إجماليا ، كما إذا أرسل إليه كتابا مشتملا على عدة مهمات . انتهى . وقال أبو زيد الدبوسي : لا تحل الرواية بالإجازة حتى يعلم المجاز له ما في الكتاب ، ثم يقول للراوي : أتعلم ما فيه ؟ فيقول : نعم ، ثم يجيز له أن يرويه . قلت : وعلى هذا فلا تصح الإجازة ، إلا لمن يصح سماعه ، وحكاه الخطيب عن بعضهم ، وأنه منع صحة الإجازة للطفل . قال : وسألت القاضي أبا الطيب الطبري ، هل يعتبر في صحتها سنه أو تمييزه كما يعتبر ذلك في صحة سماعه ؟ فقال لا يعتبر ذلك . الثانية : أنها دون السماع على الصحيح ، وقال الغزالي في " المنخول " : المختار أنه كالسماع ; لأن الثقة هي المطلوبة ، وهو غريب . الثالثة : أنه يقول فيها : حدثني ، وأخبرني ، وذكر المازري عن ابن خويز منداد : إنا إذا قلنا بالجواز أطلق ذلك ، وإن قلنا بالكراهة لم يقل إلا : أجازني ، أو حدثني ، أو أخبرني إجازة . وقال ابن دقيق العيد في " شرح العنوان " : الحق في ذلك أن يعتبر لفظ الرواية بالإجازة ، وينظر مطابقته لنفس الأمر بحسب مقتضى الوضع . فإن كان الوضع لا يمنعه جاز ، وإلا فلا ، فقوله : حدثنا بعيد جدا ، ويليه قوله : أخبرنا ، وأجود العبارات في الإجازة أن يقال : أجاز لنا فلان ، أو كتب إلينا ، إن كان كتابة ; لأنه إخبار صحيح . ا هـ . وقال أبو الحسين بن القطان في الإجازة : يحكيه على ما قاله الشيخ ، ولا يجوز أن يقول : حدثنا ، أو أخبرنا . قال : وذهب إلى هذا أبو بكر ا هـ . [ ص: 333 ] وقال المازري : هل يقول : حدثني ، وأخبرني مطلقا ؟ منهم من أجازه ، ومنهم من منعه ، حتى يقيده بالإجازة ، واختار إمام الحرمين أن الأولى التصريح به ، وإن صدقه فلا لبس فيه ، وحكاه عنه ابن القشيري وأقره .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية