الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من أن اليهود والنصارى من أهل الكتاب قد كانوا على دين حق ثم نسخ ، فيجوز لحرمة كتابهم أن يقروا على دينهم بالجزية ، أي يزكوا وتؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم ، فأما إقرارهم بالجزية وأكل ذبائحهم فمجمع عليه بالنص الوارد في كتاب الله تعالى فيه .

                                                                                                                                            أما الجزية فلقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] .

                                                                                                                                            فأما أكل الذبائح فقوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ المائدة : 5 ] .

                                                                                                                                            أما نكاح حرائرهم فالذي عليه جمهور الصحابة والتابعين غير الإمامية من الشيعة ، أنهم منعوا من نكاح حرائرهم مع القدرة على نكاح المسلمات : استدلالا بقوله تعالى : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ الممتحنة : 10 ] وقوله تعالى : لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء [ المائدة : 51 ] الآية . قالوا ولأن بعضهم يمنع من نكاح نسائهم كعبدة الأوثان ، قالوا : ولأنهم وإن كانوا أهل كتاب منزل فكتابهم مغير منسوخ ، وما نسخه الله تعالى ارتفع حكمه ، فلم يفرق بينه وبين ما لم يكن ، فكذلك صاروا بعد نسخه في حكم من لا كتاب له ، وهذا خطأ لقوله تعالى : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن [ المائدة : 5 ] فجمع بين نكاحهن ونكاح المؤمنات فدل على إباحته .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا منسوخ بقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] متقدمة : لأنها من سورة البقرة ، وقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم متأخرة : لأنها من سورة المائدة ، وهي من آخر ما نزل من القرآن ، والمتأخر هو الناسخ للمتقدم ، وليس يجوز أن يكون المتقدم ناسخا للمتأخر ، فعلى هذا الجواب يكون قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن منسوخا بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة : 5 ] وهذا قول ابن عباس .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] عام ، وقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم خاص ، والخاص من حكمه أن يكون قاضيا على العام ، ومخصصا له سواء تقدم عليه أو تأخر عنه ، فعلى هذا يكون قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] مخصوصا بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة : 5 ] وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي ، وأن اسم الشرك يطلق على أهل الكتاب وغيرهم من عبدة الأوثان ، وذهب غيره من الفقهاء : إلى أن أهل الكتاب يطلق عليه اسم الكفر ولا يطلق عليه اسم الشرك ، وأن اسم الشرك يطلق على من لم يوحد الله تعالى وأشرك به غيره من عبدة الأوثان ، فعلى هذا القول يكون قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن خصوصا ولا منسوخا ثم حكمه ثابت على عمومه .

                                                                                                                                            ثم يدل على جوازه نكاحهم ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ملك ريحانة وكانت يهودية واستمتع بها بملك اليمين ، ثم أسلمت ، فبشر بإسلامها ، فسر به ، ولو منع الدين منها لما استمتع بها ، كما لم يستمتع بوثنية ، ولأنه إجماع الصحابة ، روي عن عمر جوازه ، وعن عثمان أنه نكح [ ص: 222 ] نصرانية وعن طلحة أنه تزوج نصرانية ، وعن حذيفة أنه تزوج يهودية ، وعن جابر أنه سئل عن ذلك ، فقال : " نكحناهن بالكوفة عام الفتح مع سعد بن أبي وقاص " ، ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا ، فلما انصرفنا من العراق طلقناهن ، تحل لنا نساؤهم ولا تحل لهم نساؤنا ، فكان هذا القول من جابر إخبارا عن أحوال جماعة المسلمين الذين معه من الصحابة وغيرهم ، فصار إجماعا منتشرا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد خالف ابن عمر .

                                                                                                                                            قيل : ابن عمر كره ولم يحرم ، فلم يصر مخالفا ، ولأن الله تعالى قد أنزل كتابا من كلامه ، وبعث إليهم رسولا من أنبيائه كانوا في التمسك به على حق ، فلم يجز أن يساووا في الشرك من لم يكن من عبدة الأوثان على حق معه ، ولأنه لما جاز لحرمة كتابهم ، وما تقدم من صحة دينهم أن يفرق بينهم وبين عبدة الأوثان في حقن دمائهم بالجزية ، وأكل ذبائحهم جاز أن يفرق بينهم في نكاح نسائهم ، فأما الآية فقد مضى الجواب عنها .

                                                                                                                                            وأما قوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ الممتحنة : آية 10 ] فمخصوص بعبدة الأوثان .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على عبدة الأوثان ، فممنوع بما ذكرنا من الفرق بينهما في قبول الجزية ، وأكل الذبائح .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إن كتابهم منسوخ ، فهو كما لو لم يكن ، فالجواب عنه : أن ما نسخ حكمه لا يوجب أن لا ينسخ حرمته ، ألا ترى أن ما نسخ من القرآن ثابت الحرمة ، وإن كان منسوخ الحكم ، كذلك نسخ التوراة والإنجيل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية