الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2242 19 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : أخبرنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الخيل لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر . فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي [ ص: 215 ] كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر ، فقال : ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله " ولو أنها مرت بنهر فشربت منه " توضيحه أن ماء النهر لو كان مختصا لأحد لاحتيج إلى إذنه ، وحيث أطلقه الشارع يدل على أنه غير مختص بأحد ولا في ملك أحد ، وقال بعضهم : والمقصود منه أي من هذا الحديث قوله فيه ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقي فإنه يشعر بأن من شأن البهائم طلب الماء ولو لم يرد ذلك صاحبها فإذا أجر على ذلك من غير قصد فيؤجر بقصده من باب الأولى ، انتهى . قلت : غرض هذا القائل من هذا الكلام بيان المطابقة بين الترجمة والحديث المذكور ، ولكن بمعزل من ذلك وبعد عظيم لأن عقد الترجمة في بيان أن ماء الأنهار لا يختص بأحد يشرب منها الناس والدواب وليست بمعقودة في حصول الأجر بقصد صاحب الدابة وبغير قصده إذا شربت منه .

                                                                                                                                                                                  ورجاله قد تكرر ذكرهم وأبو صالح ذكوان .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجهاد وفي علامات النبوة عن القعنبي ، وفي التفسير وفي الاعتصام عن إسماعيل كلاهما عن مالك عنه به ، وفي التفسير أيضا عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب عن مالك بقصة الحمر ، وأخرجه مسلم في الزكاة عن سويد بن سعيد وعن يونس عن ابن وهب ، وأخرجه النسائي في الخيل عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك بقصة الخيل .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه قوله " أجر " أي ثواب ، قوله " ستر " أي ساتر لفقره ولحاله ، قوله " وزر " أي إثم وثقل ، قوله " ربطها في سبيل الله " أي أعدها للجهاد ، وأصله من ربط الشيء ومنه المرابط وهو الرجل يحبس نفسه في الثغور ، والرباط وهو المكان الذي يرابط فيه المجاهد ويعد الأهبة لذلك ، وقيل : من ربط صاحبه عن المعاصي وعقله كمن ربط وعقل ، قوله " فأطال بها في مرج " أي شدها في طوله الطول بكسر الطاء وفتح الواو وفي آخره لام ، وكذلك الطيل بالياء موضع الواو وهو حبل طويل يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره والطرف الآخر في يد الفرس ليدور فيه ويرعى ولا يذهب لوجهه ، وقيل : هو الحبل تشد به ويمسك صاحبه بطرفه ويرسلها ترعى ، وقال ابن وهب : هو الرسن والمرج الأرض الواسعة ، قال أبو المعاني : يجمع الكلأ الكثير والماء تمرج فيها الدواب حيث شاءت والجمع مروج ، قوله " طيلها " بكسر الطاء وقد مر الآن ، وأنكر يعقوب الياء ، وقال : لا يقال إلا بالواو ، وعن الأخفش هما سواء ، وزعم الخضراوي أن بعضهم أجاز فيه طوال كما تقول العامة ، وأنكر ذلك الزبيدي وقال لا أعرفه صحيحا ، وفي الجامع : ومنهم من يشدد فيقول طول ، ومنه قول الراجز :


                                                                                                                                                                                  تعرضت لي في مكان حلي تعرض المهرة في الطول

                                                                                                                                                                                  وقال الجوهري : لم يسمع في الطول الذي هو الحبل إلا بكسر الأول وفتح الثاني ، وشدده الراجز ضرورة ، وقد يفعلون مثل ذلك للتكثير ويزيدون في الحرف من بعض حروفه ، وفي المطالع : وعند الجرجاني في طولها في موضع من البخاري ، وكذا في مسلم ، قوله " فاستنت " أي أفلتت ومرحت ، والاستنان قال في التلويح : الاستنان تفعل من السنن ، وتبعه على ذلك صاحب التوضيح ، قلت : هذا غلط بل هو افتعال ، والسنن القصد ، وقيل : معنى استنت لجت في عدوها إقبالا وإدبارا ، وقيل : الاستنان يختص بالجري إلى فوق ، وقيل : هو النشاط والمرح ، وفي البارع : هو كالرقص ، وقيل : استنت رعت ، وقيل : الجري بغير فارس ، قوله " شرفا " بفتح الشين المعجمة والراء ما أشرف من الأرض وارتفع ، وقيل : الشرف والشرفان [ ص: 216 ] الشوط والشوطان سمي به لأن العادي به يشرف على ما يتوجه إليه ، قوله " آثارها " الآثار جمع أثر وأثر كل شيء بقيته ، والظاهر أن المراد به أثر خطواتها في الأرض بحافرها ، قوله " بنهر " بسكون الهاء وفتحها لغتان فصيحتان ذكرهما ثعلب ، وقال الهروي : الفتح أفصح ، وقال ابن خالويه : الأصل فيه التسكين ، وإنما جاز فتحه لأن فيه حرفا من حروف الحلق ، قال : وحروف الحلق إذا وقعت آخر الكلام فتح وسطها وإذا وقعت وسطا فتحت نفسها ، وقيل : لأنه حرف استعلاء ففتح لاستعلائه ، وفي الموعب : نهر ونهور مثل جمع وجموع ، وقال أبو حاتم : نهر وأنهار مثل جبل وأجبال ، قوله " ولم يرد أن يسقيها " من باب التنبيه لأنه إذا كان يحصل له هذه الحسنات من غير أن يقصد سقيها فإذا قصدها فأولى بأضعاف الحسنات ، قال القرطبي : لا يريد أن يسقيها أي يمنعها من شرب يضرها إذا احتبست للشرب لفوته ما يأمله أو إدراك ما يخافه أو لأنه كره أن يشرب من ماء غيره بغير إذنه ، قوله " تغنيا " نصب على التعليل أي استغناء عن الناس بطلب نتاجها الغنى والعفة ، قوله " وتعففا " عطف عليه أي لأجل ذلك تعففه عن سؤالهم بما يعمله عليها ويكتسبه على ظهورها ويتردد عليها إلى متاجره أو مزارعه ونحو ذلك فتكون سترا له عن الفاقة ، قوله ثم لم ينس حق الله في رقابها فيؤدي زكاة تجارتها ، قوله " ولا ظهورها " أي لا يحمل عليها ما لا تطيقه ، وقيل : أن يغيث بها الملهوف ومن تجب معونته ، وقيل : لا ينسى حق الله في ظهورها فيركب عليها في سبيل الله ، واستدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل السائمة وقد مر في كتاب الزكاة ، قوله " فخرا " نصب على التعليل أي لأجل التفاخر ، قوله " ورياء " عطف عليه أي لأجل الرياء ليقال إنه يربي خيل كذا ، وكذا قوله " ونواء " عطف على ما قبله أيضا أي ولأجل النواء بكسر النون وبالمد وهي المعادات وهي أن ينوي إليك وتنوي إليه أي ينهض ، وقال الداودي : بفتح النون والقصر ، وقال : كذا روي والمعروف الأول ، وقال ابن قرقول : القصر وفتح النون وهم ، وعند الإسماعيلي قال ابن أبي الحجاج عن أبي المصعب : بواء بالباء الموحدة ، قوله " عن الحمر " بضم الحاء والميم جمع حمار ، قوله " الفاذة " بالذال المعجمة أي المنفردة القليلة النظير في معناها ، وقال الخطابي : سئل عن صدقة الحمر وأشار إلى الآية بأنها جامعة لاشتمال اسم الخير على أنواع الطاعات وجعلها فاذة لخلوها عن بيان ما تحتها من تفصيل أنواعها وجمعت على انفرادها حكم الحسنات والسيئات المتناولة لكل خير ومعروف ، ومعناه أن من أحسن إليها أو أساء رآه في الآخرة ، وقيل : إنما قيل إنها فاذة إذ ليس مثلها آية أخرى في قلة الألفاظ وكثرة المعاني لأنها جامعة بين أحكام كل الخيرات والشرور ، وكيفية دلالة الآية على الجواب هي أن سؤالهم أن الحمار له حكم الفرس أم لا ؟ فأجاب بأنه إن كان لخير فلا بد أن يجزى جزاءه ويحصل له الأجر وإلا فبالعكس وإنما لم يسأل صلى الله عليه وسلم عن البغال لقلتها عندهم أو لأنها بمنزلة الحمار .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) فيه حجة من يحتج أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مجتهدا وإنما كان يحكم بالوحي ، ورد بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يظهر له أو لم يفسر الله تعالى من أحكامها وأحوالها ما قاله في الخيل وغيرها ، وفيه إشارة إلى التمسك بالعموم وهو تنبيه للأمة على الاستنباط والقياس ، وكيف يفهم معنى التنزيل لأنه نبه بما لم يذكر الله في كتابه وهي الحمر لما ذكر من عمل مثقال ذرة خيرا يره ; إذ كان معناهما واحدا ، وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا تحصيل له ، وفيه الحث على اقتناء الخيل إذا ربطها في سبيل الله ، ألا ترى أن أرواثها كانت حسنات يوم القيامة ؟ وفيه أن الرياء مذموم وأنه وزر ولا ينفعه العمل المشوب به يوم القيامة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية