الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2122 179 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : نهى عن ثمن الكلب .

                                                                                                                                                                                  ورجاله قد ذكروا ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام راهب قريش مر في الصلاة ، وأبو مسعود هو عقبة بن عمر الأنصاري مر في آخر كتاب الإيمان ، وعقبة بضم العين المهملة وسكون القاف .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 57 ] ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الإجارة عن قتيبة عن مالك ، وفي الطلاق عن علي بن عبد الله ، وفي الطب عن عبد الله بن محمد ، كلاهما عن سفيان بن عيينة ، وأخرجه مسلم في البيوع أيضا عن يحيى بن يحيى عن مالك وقتيبة ومحمد بن رمح ، كلاهما عن الليث ، وعن أبي بكر عن سفيان ، ثلاثتهم عن الزهري عنه به ، وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة عن سفيان به ، وأخرجه الترمذي فيه ، وفي النكاح عن قتيبة عن الليث به ، وعن سعيد بن عبد الرحمن ، وأخرجه النسائي فيه ، وفي الصيد عن قتيبة عن ليث به ، وأخرجه ابن ماجه في التجارات عن هشام بن عمار ومحمد بن الصباح ، كلاهما عن سفيان به .

                                                                                                                                                                                  ولما أخرجه الترمذي قال : وفي الباب عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن جعفر ، وأخرج هو أيضا حديث رافع بن خديج من حديث السائب بن يزيد عنه ، أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : كسب الحجام خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وثمن الكلب خبيث ، وأخرجه أيضا مسلم والأربعة .

                                                                                                                                                                                  أما حديث عمر فأخرجه الطبراني في الكبير من حديث السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب ، أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : ثمن القينة سحت ، وغناها حرام ، والنظر إليها حرام ، وثمنها مثل ثمن الكلب ، وثمن الكلب سحت ، ومن نبت لحمه على السحت فالنار أولى به .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث علي - رضي الله تعالى عنه - فأخرجه ابن عدي في الكامل من حديث الحارث عنه قال : نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ثمن الكلب ، وأجر البغي ، وكسب الحجام ، والضب ، والضبع .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث ابن مسعود ...

                                                                                                                                                                                  وأما حديث جابر فأخرجه مسلم من رواية أبي الزبير قال : سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور ، فقال : زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، وأخرجه أبو داود والترمذي من رواية الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه النسائي وابن ماجه من رواية أبي حازم عنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب وعسب الفحل ، وفي رواية النسائي وعسب التيس ، وأخرجه الحاكم ولفظه : لا يحل مهر الزانية ، ولا ثمن الكلب ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، وأخرجه أبو داود من رواية علي بن رباح ، أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل ثمن الكلب ، ولا حلوان الكاهن ، ولا مهر البغي .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو داود من رواية قيس بن جبير ، عن عبد الله بن عباس قال : نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ثمن الكلب ، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا . وأخرجه النسائي أيضا من رواية عطاء بن أبي رباح عنه ، وأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن أبي حاتم في العلل فقال : سألت أبي عن حديث رواه المعافى عن ابن عمران الحمصي ، عن ابن لهيعة ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ثمن الكلب وإن كان ضاريا . قال أبي : هذا حديث منكر .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث عبد الله بن جعفر فأخرجه ابن عدي في الكامل من رواية يحيى بن العلاء ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن عبد الله بن جعفر - رضي الله تعالى عنه - قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب وكسب الحجام . أورده في ترجمة يحيى بن العلاء وضعفه .

                                                                                                                                                                                  قلت : وفي الباب عن أبي جحيفة وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك والسائب بن يزيد وميمونة بنت سعد ، وأما حديث أبي جحيفة فأخرجه البخاري وقد مر . وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الحاكم في المستدرك من رواية حصين عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو ، قال : نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ثمن الكلب ، ومهر البغي ، وأجر الكاهن ، وكسب الحجام .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أنس فأخرجه ابن عدي في الكامل عنه : ثمن الكلاب كلها سحت . وأما حديث السائب بن يزيد فأخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن عبد الله قال : سمعت السائب بن يزيد يقول : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : السحت ثلاثة : مهر البغي ، وكسب الحجام ، وثمن الكلب .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث ميمونة بنت سعد فأخرجه الطبراني من رواية عبد الحميد بن يزيد ، عن أمية بنت عمر بن عبد العزيز ، عن ميمونة بنت سعد ، أنها قالت : يا رسول الله أفتنا عن الكلب ، فقال : الكلب طعمة جاهلية وقد أغنى الله عنها قال شيخنا : وليس المراد من هذا الحديث أكل الكلب ، [ ص: 58 ] وإنما المراد أكل ثمنه ، كما رواه أحمد في مسنده من حديث جابر عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه نهى عن ثمن الكلب ، وقال : طعمة جاهلية .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : نهى عن ثمن الكلب ، وهو بإطلاقه يتناول جميع أنواع الكلاب ، ويأتي الكلام فيه عن قريب .

                                                                                                                                                                                  قوله : ومهر البغي ، وفي حديث علي وأجر البغي وجاء وكسب الأمة هو مهر البغي لا الكسب الذي تكتسبه بالصنعة والعمل ، وإطلاق المهر فيه مجاز ، والمراد ما تأخذه على زناها .

                                                                                                                                                                                  والبغي بفتح الباء الموحدة وكسر الغين المعجمة وتشديد الياء ، وقال ابن التين : نقل عن أبي الحسن أنه قال : بإسكان الغين وتخفيف الياء ، وهو الزنا ، وكذلك البغاء بكسر الباء ممدودا ، قال الله تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء . يقال : بغت المرأة تبغي بغاء ، والبغي يجيء بمعنى الطلب ، يقال : أبغني ، أي اطلب لي ، قال الله تعالى : يبغونكم الفتنة . قال الخطابي : وأكثر ما يأتي ذلك في الشر ، ومنه الفئة الباغية من البغي ، وهو الظلم ، وأصله الحسد ، والبغي الفساد أيضا والاستطالة والكبر ، والبغي في الحديث الفاجرة وأصله بغوي على وزن فعول بمعنى فاعلة اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء ، فصار بغي بضم الغين ، فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء ، وهو صفة لمؤنث ; فلذلك جاء بغير هاء كما يجيء إذا كانت بمعنى مفعول ، نحو : ركوب وحلوب ، ولا يجوز أن يكون بغي هنا على وزن فعيل ، إذ لو كان كذلك للزمته الهاء : كامرأة حليمة وكريمة ، ويجمع البغي على بغايا .

                                                                                                                                                                                  قوله : وحلوان الكاهن الحلوان بضم الحاء الرشوة ، وهو ما يعطى الكاهن ويجعل له على كهانته ، تقول منه حلوت الرجل حلوانا إذا حبوته بشيء ، وقال الهروي : قال بعضهم : أصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو ، يقال : حلوته إذا أطعمته الحلو ، كما يقال عسلته إذا أطعمته العسل ، وقال أبو عبيد : والحلوان أيضا في غير هذا أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه ، وهو عيب عند النساء ، وقالت امرأة تمدح زوجها :

                                                                                                                                                                                  لا تأخذ الحلوان من بناتها



                                                                                                                                                                                  وفي شرح الموطإ لابن زرقون : وأصل الحلوان في اللغة العطية قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                  فمن رجل أحلوه رحلي وناقتي يبلغ عني الشعر إذ مات قائله

                                                                                                                                                                                  وقال الجوهري : حلوت فلانا على كذا مالا وأنا أحلوه حلوا وحلوانا ، إذا وهبت له شيئا على شيء يفعله لك غير الأجرة ، والحلوان أيضا أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه شيئا كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                  والكاهن الذي يخبر بالغيب المستقبل ، والعراف الذي يخبر بما أخفي وقد حصل في الوجود ، ويجمع الكاهن على كهنة وكهان ، يقال : كهن يكهن كهانة ، مثل كتب يكتب كتابة إذا تكهن ، فإذا أردت أنه صار كاهنا قلت : كهن بالضم كهانة بالفتح ، وقال ابن الأثير : الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار ، وقد كان في العرب كهنة كشق وسطيح وغيرهما ، فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن ورئيا يلقي إليه الأخبار ، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله ، وهذا يخصونه باسم العراف ، كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) وهو ثلاثة أحكام :

                                                                                                                                                                                  الأول : ثمن الكلب احتج به جماعة على أنه لا يجوز بيع الكلب مطلقا المعلم وغيره ، ومما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز ، وأنه لا ثمن له ، وإليه ذهب الحسن ، ومحمد بن سيرين ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، والحكم ، وحماد بن أبي سليمان ، وربيعة والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وأهل الظاهر ، وهو إحدى الروايتين عن مالك ، وقال ابن قدامة : لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل على كل حال ، وكره أبو هريرة ثمن الكلب ، ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر ، وبه قال عطاء والنخعي .

                                                                                                                                                                                  واختلف أصحاب مالك ، فمنهم من قال : لا يجوز ، ومنهم من قال الكلب : المأذون في إمساكه يكره بيعه ويصح ، ولا تجوز إجارته ، نص عليه أحمد ، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ، وقال بعضهم : يجوز ، وقال مالك في الموطإ : أكره ثمن الكلب الضاري وغير الضاري لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب . وفي شرح الموطإ لابن زرقون : واختلف قول مالك في ثمن الكلب المباح اتخاذه ، فأجازه مرة ومنعه أخرى ، وبإجازته قال [ ص: 59 ] ابن كنانة وأبو حنيفة ، وقال سحنون : ويحج بثمنه . وروى عنه ابن القاسم أنه كره بيعه ، وفي المزينة : كان مالك يأمر ببيع الكلب الضاري في الميراث والدين والمغارم ، ويكره بيعه ابتداء ، قال يحيى بن إبراهيم : قوله في الميراث يعني لليتيم ، وأما لأهل الميراث البالغين فلا يباع إلا في الدين والمغارم ، وقال أشهب في ديوانه عن مالك : يفسخ بيع الكلب إلا أن يطول . وحكى ابن عبد الحكم أنه يفسخ وإن طال ، وقال ابن حزم في المحلى : ولا يحل بيع كلب أصلا لا كلب صيد ولا كلب ماشية ولا غيرهما ، فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه ، وهو حلال للمشتري حرام على البائع ، ينتزع منه الثمن متى قدر عليه كالرشوة في دفع الظلم وفداء الأسير ومصانعة الظالم ، ولا فرق .

                                                                                                                                                                                  ثم إن الشافعية قالوا : من قتل كلب صيد أو زرع وماشية لا يلزمه قيمته ، قال الشافعي : ما لا ثمن له لا قيمة له إذا قتل ، وبه قال أحمد ومن نحى إلى مذهبهما ، وعن مالك روايتان ، واحتجوا بما روي في هذا الباب بالأحاديث التي فيها منع بيع الكلب وحرمة ثمنه .

                                                                                                                                                                                  وخالفهم في ذلك جماعة ، وهم : عطاء بن أبي رباح ، وإبراهيم النخعي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وابن كنانة ، وسحنون من المالكية ، ومالك في رواية ، فقالوا : الكلاب التي ينتفع بها يجوز بيعها ويباح أثمانها ، وعن أبي حنيفة أن الكلب العقور لا يجوز بيعه ولا يباح ثمنه .

                                                                                                                                                                                  وفي البدائع : وأما بيع ذي ناب من السباع سوى الخنزير : كالكلب ، والفهد ، والأسد ، والنمر ، والذئب ، والهر ونحوها - فجائز عند أصحابنا ، ثم عندنا لا فرق بين المعلم وغير المعلم في رواية الأصل ، فيجوز بيعه كيف ما كان .

                                                                                                                                                                                  وروي عن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور كما روي عن أبي حنيفة فيه ، ثم على أصلهم يجب قيمته على قاتله ، واحتجوا بما روي عن عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - ، أنه أغرم رجلا ثمن كلب قتله عشرين بعيرا ، وبما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما ، وقضى في كلب ماشية بكبش .

                                                                                                                                                                                  وقال المخالفون لهم : أثر عثمان منقطع وضعيف ، قال البيهقي : ثم الثابت عن عثمان بخلافه ، فإنه خطب فأمر بقتل الكلاب ، قال الشافعي : فكيف يأمر بقتل ما يغرم من قتله قيمته .

                                                                                                                                                                                  وأثر عبد الله بن عمرو له طريقان : أحدهما منقطع ، والآخر فيه من ليس بمعروف ، ولا يتابع عليهما كما قاله البخاري ، وقد روى عبد الله بن عمرو النهي عن ثمن الكلب ، فلو ثبت عنه القضاء بقيمته لكانت العبرة بروايته لا بقضائه على الصحيح عند الأصوليين ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  قلت : الجواب عن هذا كله ، أما قول البيهقي : "ثم الثابت عن عثمان بخلافه" ، فإنه حكى عن الشافعي أنه قال : أخبرني الثقة عن يونس ، عن الحسن ، سمعت عثمان يخطب وهو يأمر بقتل الكلاب ، فلا يكتفى بقوله "أخبرني الثقة" ، فقد يكون مجروحا عند غيره ، لا سيما والشافعي كثيرا ما يعني بذلك ابن أبي يحيى أو الزنجي ، وهما ضعيفان ، وكيف يأمر عثمان بقتل الكلاب وآخر الأمرين من النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن قتلها إلا الأسود منها ؟! فإن صح أمره بقتلها ، فإنما كان ذلك في وقت لمفسدة طرأت في زمانه .

                                                                                                                                                                                  قال صاحب التمهيد : ظهر بالمدينة اللعب بالحمام والمهارشة بين الكلاب ، فأمر عمر وعثمان - رضي الله تعالى عنهما - بقتل الكلاب وذبح الحمام ، قال الحسن : سمعت عثمان غير مرة يقول في خطبته : اقتلوا الكلاب واذبحوا الحمام ، فظهر من هذا أنه لا يلزم من الأمر بقتلها في وقت لمصلحة أن لا يضمن قاتلها في وقت آخر كما أمر بذبح الحمام .

                                                                                                                                                                                  وأما قول البيهقي : "أثر عثمان منقطع" ، وقد روي من وجه آخر : "منقطع عن يحيى الأنصاري عن عثمان " ، فنقول : مذهب الشافعي أن المرسل إذا روي مرسلا من وجه آخر ، صار حجة ، وتأيد أيضا بما رواه البيهقي بعد عن عبد الله بن عمرو وإن كان منقطعا أيضا ، وأما قوله : والآخر فيه من ليس بمعروف ، فلا يتابع عليه ، كما قاله البخاري فهو إسماعيل بن خشاش الراوي عن عبد الله بن عمر ، وقد ذكر ابن حبان في الثقات : وكيف يقول البخاري لم يتابع عليه وقد أخرجه البيهقي فيما بعد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو ؟! وذكر ابن عدي في الكامل كلام البخاري ، ثم قال : لم أجد لما قاله البخاري فيه أثرا فأذكره .

                                                                                                                                                                                  وأما قوله : فالعبرة لروايته لا بقضائه غير مسلم ; لأن هذا الذي قاله يؤدي إلى مخالفة الصحابي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عنه ، ولا نظن ذلك في حق الصحابي ، بل العبرة لقضائه ; لأنه لم يقض بخلاف ما رواه إلا بعد أن ثبت عنده انتساخ ما رواه .

                                                                                                                                                                                  وهكذا أجاب الطحاوي عن الأحاديث التي فيها النهي عن ثمن الكلب وأنه سحت ، فقال : إن هذا إنما كان حين كان حكم الكلاب أن تقتل ، ولا يحل إمساك شيء منها ولا الانتفاع بها ، ولا شك أن [ ص: 60 ] ما حرم الانتفاع به كان ثمنه حراما ، فلما أباح رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - الانتفاع بها للاصطياد ونحوه ما نهى عن قتلها ، نسخ ما كان من النهي عن بيعها وتناول ثمنها .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما وجه هذا النسخ ؟ قلت : وجهه ظاهر ، وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة ، فلما ورد النهي عن اتخاذ الكلاب وورد الأمر بقتلها علمنا أن اتخاذها حرام ، وأن بيعها حرام أيضا ; لأن ما كان انتفاعه حراما قيمته حرام كالخنزير ونحوه ، ثم لما وردت الإباحة بالانتفاع بها للاصطياد ونحوه ، وورد النهي عن قتلها ، علمنا أن ما كان قبل ذلك من الحكمين المذكورين قد انتسخ بما ورد بعده ، ولا شك أن الإباحة بعد التحريم نسخ لذلك التحريم ورفع لحكمه ، وسيأتي زيادة بيان في المزارعة وغيرها .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما حكم السنور ؟ قلت : روى الطحاوي والترمذي من حديث أبي سفيان عن جابر قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب والسنور ، ثم قال : هذا حديث في إسناده اضطراب . ثم روى الترمذي من حديث أبي الزبير عن جابر قال : نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن أكل الهر وثمنه ، ثم قال : هذا حديث غريب .

                                                                                                                                                                                  وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال : سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور ، فقال : "زجر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ذلك " . ورواه النسائي ولفظه : نهى عن الكلب والسنور إلا كلب صيد . وقال النسائي بعد تخريجه : هذا حديث منكر .

                                                                                                                                                                                  واختلف العلماء في جواز بيع الهر : فذهب قوم إلى جواز بيعه وحل ثمنه ، وبه قال الجمهور ، وهو قول الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، والحكم ، وحماد ، ومالك ، وسفيان الثوري ، وأبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال ابن المنذر : وروينا عن ابن عباس أنه رخص في بيعه قال : وكرهت طائفة بيعه ، روينا ذلك عن أبي هريرة ، وطاووس ومجاهد ، وبه قال جابر بن زيد .

                                                                                                                                                                                  وأجاب القائلون بجواز بيعه عن الحديث بأجوبة : أحدها أن الحديث ضعيف ، وهو مردود ، والثاني حمل الحديث على الهر إذا توحش فلم يقدر على تسليمه ، حكاه البيهقي في السنن عن بعض أهل العلم ، والثالث ما حكاه البيهقي عن بعضهم أنه كان ذلك في ابتداء الإسلام حين كان محكوما بنجاسته ، ثم لما حكم بطهارة سؤره حل ثمنه ، والرابع أن النهي محمول على التنزيه لا على التحريم ، ولفظ مسلم : زجر يشعر بتخفيف النهي فليس على التحريم ، بل على التنزيه ، وعكس ابن حزم هذا ، فقال : الزجر أشد النهي ، وفي كل منهما نظر لا يخفى ، والخامس ما حكاه ابن حزم عن بعضهم أنه يعارضه ما روى أبو هريرة وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه أباح ثمن الهر ، ثم رده بكلام طويل ، والسادس ما حكاه أيضا ابن حزم عن بعضهم أنه لما صح الإجماع على وجوب الهر والكلب المباح اتخاذه في الميراث والوصية والملك جاز بيعهما ، ثم رده أيضا ، وقال النووي : والجواب المعتمد أنه محمول على ما لا نفع فيه ، أو على أنه نهي تنزيه حتى يعتاد الناس هبته وإعارته .

                                                                                                                                                                                  والحكم الثاني مهر البغي ، وهو ما يعطى على النكاح المحرم ، فإذا كان محرما ولم يستبح بعقد صارت المعاوضة عليه لا تحل ; لأنه ثمن عن محرم ، وقد حرم الله الزنا وهذا مجمع على تحريمه لا خلاف فيه بين المسلمين .

                                                                                                                                                                                  والحكم الثالث حلوان الكاهن ، وهو حرام ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إتيان الكهان ، مع أن ما يأتون به باطل وحله كذب ، قال تعالى : تنـزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ، وأخذ العوض على مثل هذا ، ولو لم يكن منهيا عنه من أكل المال بالباطل ، ولأن الكاهن يقول ما لا ينتفع به ويعان بما يعطاه على ما لا يحل .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية