الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2139 2 - ( حدثنا المكي بن إبراهيم قال : أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد قال : وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة ، فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع مولى النبي فقال - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا سعد ابتع مني بيتي في دارك ، فقال سعد : والله ما أبتاعهما ، فقال المسور : والله لتبتاعنهما ، فقال سعد : والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة ، قال أبو رافع : لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ولولا أني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : الجار أحق بسقبه ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أعطى بها خمسمائة دينار ، فأعطاها إياه ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله : ابتع مني بيتي الذي في دارك ، ففي ذلك عرض الشريك بالبيع شريكه لأجل شفعته قبل صدور البيع .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم سبعة ، الأول : المكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد أبو السكن الحنظلي البلخي ، [ ص: 74 ] الثاني : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، الثالث : إبراهيم بن ميسرة ضد الميمنة ، وقد مر في باب الدهن للجمعة ، الرابع : عمرو بن الشريد بفتح الشين المعجمة وكسر الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره دال مهملة ، أبو الوليد ، قال العجلي : حجازي تابعي ثقة ، وأبوه الشريد بن سويد الثقفي صحابي شهد الحديبية ، الخامس : سعد بن أبي وقاص - رضي الله تعالى عنه - ، السادس : المسور بكسر الميم وسكون السين المهملة ابن مخرمة بفتح الميم والراء وإسكان الخاء المعجمة بينهما ، تقدم في آخر كتاب الوضوء ، السابع : أبو رافع واسمه أسلم بلفظ أفعل التفضيل ، القبطي ، كان للعباس ، فوهبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما بشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلام العباس أعتقه ، مات في أول خلافة علي - رضي الله تعالى عنه - .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع ، وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضع ، وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في موضع ، وفيه القول في خمسة مواضع ، وفيه ثلاثة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وأحدهم صحابي ابن صحابي وهو المسور بن مخرمة ، فإن مخرمة من مسلمة الفتح ، ومن المؤلفة قلوبهم ، وشهد حنينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو ابن عم سعد بن أبي وقاص ، وفيه أن شيخه بلخي كما ذكرنا ، وأن ابن جريج وإبراهيم مكيان ، وعمرو بن شريد طائفي ، وهو من أوساط التابعين ، وليس له في البخاري غير هذا الحديث ، وفيه إبراهيم عن عمرو ، وفي رواية سفيان على ما يأتي في ترك الحيل عن إبراهيم بن ميسرة سمعت عمرو بن الشريد .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في ترك الحيل عن علي بن عبد الله عن سفيان بن عيينة ، وعن محمد بن يوسف وأبي نعيم كلاهما عن سفيان الثوري ، وعن مسدد عن يحيى عن الثوري ، وأخرجه أبو داود في البيوع عن النفيلي عن سفيان بن عيينة به ، وعن محمود بن غيلان عن أبي نعيم به ، وأخرجه ابن ماجه في الأحكام عن أبي بكر ابن أبي شيبة وعلي بن محمد وعبد الله بن الجراح ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : " إحدى منكبي " ذكره ابن التين هكذا بلفظ إحدى وأنكره بعضهم ، وقال : المنكب مذكر ، وبخط الحافظ الدمياطي : أحد منكبي ، قوله : " إذ جاء " كلمة إذ للمفاجاة مضافة إلى الجملة وجوابها قوله : فقال يا سعد ، قوله : " ابتع مني " أي اشتر مني ، قوله : " بيتي في دارك " أي بيتي الكائنين في دارك ، وقال الكرماني : بيتي بلفظ المفرد والتثنية ، ولهذا جاءت الضمائر التي بعده مثنى ومفردا ، مؤنثا بتأويل البيت بالبقعة ، قوله : " ما أبتاعهما " أي ما أشتريهما ، قوله : " لتبتاعنهما " اللام فيه مفتوحة للتأكيد وكذلك نون التأكيد إما مخففة وإما مثقلة ، قوله : " منجمة " أي موظفة ، والنجم الوقت المضروب ، قوله : " أو مقطعة " شك من الراوي ، والمراد مؤجلة يعطي شيئا فشيئا ، قوله : " أربعة آلاف " وفي رواية سفيان أربعمائة درهم ، وفي رواية الثوري في ترك الحيل أربعمائة مثقال ، وهو يدل على أن المثقال إذ ذاك عشرة دراهم ، قوله : " لقد أعطيت " على صيغة المجهول ، وكذلك ، قوله : " وأنا أعطى بها " .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) استدل به أبو حنيفة وأصحابه على إثبات الشفعة للجار ، وأوله الخصم على أن المراد به الشريك ، بناء على أن أبا رافع كان شريك سعد في البيتين ، ولذلك دعاه إلى الشراء منه ، ورد هذا بأن ظاهر الحديث أن أبا رافع كان يملك بيتين من جملة دار سعد لا شقصا شائعا من دار سعد - رضي الله تعالى عنه - وذكر عمر بن شبة أن سعدا كان اتخذ دارين بالبلاط متقابلين بينهما عشرة أذرع ، وكانت التي عن يمين المسجد منهما لأبي رافع فاشتراها سعد منه ، ثم ساق حديث الباب ، فاقتضى كلامه أن سعدا كان جارا لأبي رافع قبل أن يشتري منه داره لا شريكا ، وقيل : الجار لما احتمل معاني كثيرة ، منها : أن كل من قارب بدنه بدن صاحبه قيل له جار في لسان العرب ، ومنها : يقال لامرأة الرجل جارته لما بينهما من الاختلاط بالزوجية ، ومنها : أنه يسمى الشريك جارا لما بينهما من الاختلاط بالشركة وغير ذلك من المعاني ، فإذا كان كذلك يكون لفظ الجار في الحديث مجملا ، وقوله : - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا وقعت الحدود فلا شفعة " كان مفسرا فالعمل به أولى من العمل بالمجمل ، قلت : دعوى الإجمال هنا دعوى فاسدة لعدم الدليل على ذلك ، وفي مصنف عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن شريح : الخليط أحق من الجار ، والجار أحق من غيره ، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي : الشريك أحق بالشفعة ، فإن لم يكن شريك فالجار ، وهذا ينادي بأعلى صوته أن الشريك غير الجار ، فإن المراد بالجار هو صاحب [ ص: 75 ] الدار الملاصقة بدار غيره ، وفيه ثبوت الشفعة مطلقا سواء كان الذي له الشفعة حاضرا أو غائبا ، وسواء كان بدويا أو قرويا ، مسلما أو ذميا ، صغيرا أو كبيرا ، أو مجنونا إذا أفاق .

                                                                                                                                                                                  وقال قوم من السلف : لا شفعة لمن لم يسكن في المصر ، ولا للذمي ، قاله الشعبي والحارث العكلي والبتي ، وزاد الشعبي : ولا لغائب ، وقال ابن أبي ليلى : ولا شفعة لصغير ، وقال الشعبي : لا تباع الشفعة ولا توهب ولا تعار ، هي لصاحبها الذي وقعت له ، وقال إبراهيم فيما نقله الأثرم : لا تورث ، وكذا روي عن ابن سيرين ، وقال ابن حزم : قال عبد الرزاق : وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، والحسن بن حي ، وأبي سليمان ، وقال مالك والشافعي : تورث ، قلت : مذهب أبي حنيفة أن الشفعة تبطل بموت الشفيع قبل الأخذ بعد الطلب أو قبله ، فلا تورث عنه ، ولا تبطل بموت المشتري لوجود المستحق .

                                                                                                                                                                                  وفيه ما يدل على مكارم الأخلاق ; لأن أبا رافع باع من سعد بأقل مما أعطاه غيره ، فهو من باب الإحسان والكرم ، وإذا اختلف الشفيع والمشتري في مقدار الثمن ، فالقول للمشتري لأنه منكر ولا يتحالفان ، فإن برهنا فالبينة بينة الشفيع عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف : البينة بينة المشتري ، وعند الشافعي وأحمد : تهاترتا والقول للمشتري ، وعنهما يقرع ، وعند مالك يحكم للأعدل وإلا فباليمين .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية