الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2280 2 - حدثنا يحيى بن قزعة ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، قال المسلم : والذي اصطفى محمدا على العالمين ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي ، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله ؟

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله " استب رجلان " ، فإن الاستباب عن اثنين لا يكون إلا بالخصومة ، ورجاله قد ذكروا غير مرة ، والحديث أخرجه البخاري أيضا في التوحيد وفي الرقاق عن يحيى بن قزعة وعبد العزيز بن عبد الله ، وأخرجه مسلم في الفضائل عن زهير بن حرب وأبي بكر بن أبي النضر ، وأخرجه أبو داود في السنة عن حجاج بن أبي يعقوب ومحمد بن يحيى بن فارس ، وأخرجه النسائي في النعوت وفي التفسير عن محمد بن عبد الرحيم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله عن أبي سلمة وعن عبد الرحمن الأعرج يعني الزهري يروي عنهما جميعا ، وهما يرويان جميعا عن أبي هريرة ، ويروي عن ابن شهاب والأعرج .

                                                                                                                                                                                  قوله " استب رجلان " من السب وهو الشتم ، من سبه يسبه سبا وسبابا ، قوله " رجل " أي أحدهما رجل من المسلمين ، قيل : هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، ووقع في جامع سفيان عن عمرو بن دينار أن الرجل الذي لطم اليهودي هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، قوله " ورجل من اليهود " أي والآخر رجل من اليهود ذكر في تفسير ابن إسحاق أن اليهودي اسمه فنحاص ، وفيه نزل قوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء قوله " والذي اصطفى محمدا " أي والله الذي اختار محمدا على العالمين ، وأصل اصطفى اصتفى لأنه من الصفوة ، فلما نقل صفا إلى باب الافتعال ، فقيل : اصتفى قلبت تاؤه طاء لأن الصاد من المجهورة والتاء من المهموسة فلا يعتدلان ، قوله " لا تخيروني " أي لا تفضلوني على موسى ، فإن قلت : نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين ، وقال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، فما وجه قوله لا تخيروني أي تفضلوني ؟ قلت : الجواب عنه من أوجه :

                                                                                                                                                                                  الأول : أنه قبل أن يعلم أنه أفضلهم ، فلما علم قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر .

                                                                                                                                                                                  الثاني : أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص بعضهم فإنه كفر .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة كما في الحديث من لطم المسلم اليهودي .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 251 ] الرابع : أنه قال تواضعا ونفيا للكبر والعجب .

                                                                                                                                                                                  الخامس : أنه نهى عن التفضيل في نفس النبوة لا في ذوات الأنبياء عليهم السلام وعموم رسالتهم وزيادة خصائصهم ، وقد قال تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض وقال ابن التين : معنى لا تخيروا بين الأنبياء يعني من غير علم ، وإلا فقد قال تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض وأغرب ابن قتيبة فأجاب بأنه سيد ولد آدم يوم القيامة لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض ، قوله " يصعقون " يعني يخرون صراعا بصوت يسمعونه يوجب فيهم ذلك ، من صعق يصعق من باب علم يعلم ، وقال ابن الأثير : الصعق أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه ، وربما مات منه ثم استعمل في الموت كثيرا ، والصعقة المرة الواحدة منه ، وقال النووي : الصعق والصعقة الهلاك والموت ، يقال : منه صعق الإنسان بفتح الصاد وضمها ، وأنكر بعضهم الضم ، منهم القزاز فإنه قال : لا يقال صعق ولا هو مصعوق ، وقال الطبري بإسناده عن ابن عباس : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ترابا وخر موسى صعقا قال مغشيا عليه ، وفي رواية : فلم يزل صعقا ما شاء الله ، وقال ابن الجوزي : وهو بالموت أشبه ، وفي تفسير الطبري عن قتادة وابن جريج : وخر موسى صعقا قالا : ميتا ، وفي التهذيب للأزهري : قوله تعالى فلما أفاق دليل الغشي لأنه يقال للمغشي عليه وللذي ذهب عقله : قد أفاق ، وفي الميت : بعث ونشر ، قوله : فأكون أول من يفيق ، وفي لفظ : أول من تنشق عنه الأرض ، قيل : هو مشكل لأن الأحاديث دالة على أن موسى قد توفي وأنه صلى الله عليه وسلم زاره في قبره ، وجه الإشكال أن نفخة الصعق إنما يموت بها من كان حيا في هذه الدار ، فأما من مات فيستحيل أن يموت ثانيا وإنما ينفخ في الموتى نفخة البعث ، وموسى قد مات فلا يصح أن يموت مرة أخرى ولا يصح أن يكون مستثنى من نفخة الصعق ; لأن المستثنين أحياء لم يموتوا ولا يموتون ، ولا يصح استثناؤهم من الموتى ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المراد بهذه الصعقة صعقة فزع بعد الموت حين تنشق السموات والأرض ، وقال النووي : يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء وهو باطل ، وقال القاضي : يحتمل أن يكون المراد بهذه الصعقة صعقة فزع بعد الموت حين تنشق السموات والأرض ، وقال النووي : يحتمل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض إن كان هذا اللفظ على ظاهره ، وأن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض ، فيكون موسى عليه الصلاة والسلام من تلك الزمرة وهي والله أعلم زمرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإن قلت : إذا جعلت له تلك عوضا من الصعقة فيكون حيا حالة الصعق وحينئذ لم يصعق ، قلت : الموت ليس بعدم إنما هو انتقال من دار إلى دار ، فإذا كان هذا للشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى مع أنه صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد اجتمع بهم ليلة الإسراء ببيت المقدس والسماء خصوصا بموسى عليه الصلاة والسلام ، فتحصل من جملة هذا القطع بأنهم غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء ، وذلك كالحال في الملائكة عليهم الصلاة والسلام فإنهم موجودون أحياء لا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله تعالى بكرامته ، وإذا تقرر أنهم أحياء فهم فيما بين السماوات والأرض ، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السموات والأرض إلا من شاء الله ، فأما صعق غير الأنبياء فموت ، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشي فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حي ومن غشي عليه أفاق ، فإذا تحقق هذا علم أن نبينا صلى الله عليه وسلم أول من يفيق وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم الأنبياء وغيرهم إلا موسى عليه الصلاة والسلام ، فإنه حصل له فيه تردد هل بعث قبله أو بقي على الحالة التي كان عليها ؟ وعلى أي الحالتين كان فهي فضيلة عظيمة لموسى عليه الصلاة والسلام ليست لغيره ، قلت : لقائل أن يقول أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم لما يرفع بصره حين الإفاقة يكون إلى جهة من جهات العرش ، ثم ينظر ثانيا إلى جهة أخرى منه فيجد موسى ، وبه يلتئم قوله أنا أول من تنشق عنه الأرض ، قوله " فإذا موسى باطش " كلمة " إذا " للمفاجأة ، ومعنى " باطش " متعلق به بقوة .

                                                                                                                                                                                  والبطش الأخذ القوي الشديد ، قوله " فلا أدري " إلى آخره ، فإن قلت : يأتي في حديث أبي سعيد عقيب هذا فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الأولى ، فما الجمع بين هذه الثلاثة ؟ قلت : المعنى لا أدري أي هذه الثلاثة كانت من الإفاقة أو الاستثناء أو المحاسبة ، والمستثنى قد يكون نفس من له الصعقة في الدنيا .

                                                                                                                                                                                  قوله " ممن استثنى الله " يعني في قوله تعالى : فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله أن لا يصعق ، وهم : جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل . وزاد كعب : حملة العرش ، وروى [ ص: 252 ] أنس مرفوعا ، ثم تموت الثلاثة الأول ، ثم ملك الموت بعدهم ، وملك الموت يقبضهم ثم يميته الله ، وروى أنس مرفوعا : آخرهم موتا جبريل عليه الصلاة والسلام ، وقال سعيد بن المسيب : إلا من شاء الله ، الشهداء متقلدون بالسيوف حول العرش .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية