الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
1733 - (إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ واهتدى ومن أخطأه ذلك النور ضل) (حم) (ت) (ك) عن ابن عمرو. (صح)

التالي السابق


(إن الله خلق خلقه) أي الثقلين فإن الملائكة ما خلقوا إلا من نور ولم يخلقوا من ظلمة الطبيعة والميل إلى الشهوة والغفلة عن معالم الغيب (في ظلمة) أي كائنين في ظلمة الطبيعة فالنفس الأمارة بالسوء المجبولة بالشهوات المردية والأهواء المضلة والركون إلى المحسوسات والغفلة عن معالم الغيب وأسرار عالم القدس (فألقى) وفي رواية للحكيم بدله رش والإلقاء في الأصل طرح الشيء حيث يلقاه ثم صار في التعارف اسما لكل طرح (عليهم من نوره) أي شيئا من نوره ومن إما للتبيين أو للتبعيض أو زائدة وكذا في من ذلك النور وهو ما نصب من الشواهد والبراهين وأنزل من الآيات والنذر (فمن) شاء الله هدايته (أصابه من ذلك النور يومئذ) فخلص من تلك الظلمة (واهتدى) إلى إصابة طرق السعداء (ومن أخطأه ذلك النور) أي جاوزه وتعداه لعدم مشاهدة تلك الآيات وإبصاره تلك البراهين الجليات (ضل) أي بقي في ظلمة الطبيعة متحيرا كالأنعام كما هو حال الفجرة المنهمكين في الشهوات المعرضين عن الآيات والنذر أو المراد خلق الذر المستخرج من صلب آدم فعبر بالنور عن الألطاف التي هي تباشير صبح الهداية وإشراق لمع برق العناية ثم أشار بقوله أصاب وأخطأ إلى ظهور أثر تلك العناية في الإنزال من هداية بعض وضلال بعض أو معنى في ظلمته جهالا عن معرفة الله لأن العبودية لا تدرك الربوبية إلا بإحداث المعرفة منها لها وهو معنى ألقى عليهم من نوره أي هدى من شاء فعبر عن الهدى بالنور فلا يعرف الله إلا بالله فالدلائل لإلزام الحجة لا سبب للهداية بمجردها وإلا لاهتدى بها كل ناظر وكم نظر فيها ذو عقل سليم وفهم قويم وفكر مستقيم ولم يزده ذلك إلا ضلالا. قال الطيبي: والتوفيق بين ما ذكر من معنى هذا الحديث وحديث كل مولود يولد على الفطرة أن الإنسان مركب من الحيوانية المقتضية العروج إلى عالم القدس وهي مستعدة لقبول فيضان نور الله الهادي ومهيأة للتحلي بحلية الدين ومن النفسانية المائلة إلى الخلود في الأرض والانهماك في الشهوات والركون إلى المرديات فلاحظ في هذا الحديث أن الإنسان خلق على حالة لا ينفك عنها إلا من أصابه من ذلك النور الملقى عليه وذلك الحديث لمح إلى القضاء بقوله كل مولود يولد على الفطرة واختار بعض محققي الصوفية تبعا للحكيم الترمذي إجراء هذا الحديث على ظاهره وحمل الظلمة والنور على الحقيقة فقال: خلقهم كالنجوم الدراري ثم سلبهم الضوء فوضعهم في ترابية التربة التي أراد منها إنشاء خلق آدم وقد طمس ضوءهم فلبثوا في تلك الظلمة إلى أن مضى نحو خمسين ألف سنة فصاروا في طول ذلك اللبث في تلك الظلمة ثلاث أصناف فصنف منهم قال: الذي ملكنا لم يدم ملكه فعجز عنا وإلا لما تركنا هنا كالمنسي وصنف قالوا: نحن هنا ننتظر ما يكون وهو دائم وصنف صارت تلك الترابية في أفواههم فقال: ما الذي رأيتم مني حتى تنسبوني إلى العجز وانقطاع الملك فصارت هذه الكلمة ختما على أفواههم وهو قوله ختم الله على قلوبهم فالختم لا يرفع أبدا والصنف الثاني شكوا فهم ينتظرون لما يكون فما استقرت قلوبهم فتناثرت تلك الترابية على أفواه قلوبهم لتذبذبهم مرة إقبالا ومرة إعراضا فصار قفلا والقفل قد يفتح إن شاء فذلك قوله تعالى أم على قلوب أقفالها والصنف الثالث قالوا: مالكنا دائم إن شاء جعلها في ظلمة وإن شاء جعلها في نور فقال أنتم لي علمتم فصارت هذه الكلمة مكتوبة على قلوبهم فمن أصابته يمينه فهم الأولياء ومن أصابته يده الأخرى فعامة الموحدين فتناولهم فصيرهم في قبضته وصارت هذه الكلمة مكتوبة بين أعين أفئدتهم فذلك قوله أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فهذه [ ص: 231 ] كانت صفتهم فلم يزل ينقلهم من حال إلى حال حتى ظهروا في طينة آدم وأعطاهم كلهم الصورة وظهرت في الطينة ثم لما نفخ فيه أخرج أصحاب اليمين من كتفه الأيمن كهيئة الذر في صفاء وتلألئ وأصحاب الشمال من كتفه الأيسر كالحمحمة السوداء والسابقين أمام الفريقين وهم الرسل والأنبياء والأولياء فقررهم كلهم وأخذ عهودهم وميثاقهم على الإقرار له بالعبودية ثم ردهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلا من أرحام الأمهات فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي: أي لا أبالي بما يعملون من خير أو شر فأما أصحاب اليمين فصاروا بيضا من ذلك النور الذي أصابهم والآخرون سودا من الظلمة التي خلقهم فيها.

(فائدة) سأل عبد الله بن طاهر أمير خراسان المأمون الحسين بن الفضل عن قوله تعالى كل يوم هو في شأن مع هذا الخبر فقال: هي شئون يبديها ولا يبتديها فقام إليه وقبل رأسه

(حم) (ت) (ك) وكذا ابن حبان (عن ابن عمرو) بن العاص قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وصححه أيضا ابن حبان وقال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما ثقات وقال ابن حجر رحمه الله تعالى في فتاويه: إسناده لا بأس به وظاهر صنيع المصنف أن مخرجيه لم يزيدوا فيه على ما ذكره والأمر بخلافه بل بقية الحديث عندهم فلذلك أقول جف القلم على علم الله انتهى لكن ادعى بعضهم أن قائل ذلك هو ابن عمرو فلعل المؤلف يميل إلى هذا القول فقوله ولذلك أي من أجل عدم تغير ما جرى في الأزل تقديره من إيمان وطاعة وكفر ومعصية أقول جف القلم.




الخدمات العلمية