الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3431 ) فصل : فإن كان المبيع أرضا فبناها المشتري ، أو غرسها ، ثم أفلس ، فأراد البائع الرجوع في الأرض ، نظرت ; فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس والبناء ، فلهم ذلك ; لأن الحق لهم ، لا يخرج عنهم ، فإذا قلعوه ، فللبائع الرجوع في أرضه ; لأنه وجد متاعه بعينه

                                                                                                                                            قال أصحابنا ، ويستحق الرجوع قبل القلع ، وهو مذهب الشافعي ويحتمل أن لا يستحقه حتى يوجد القلع ; لأنه قبل القلع لم يدرك متاعه إلا مشغولا بملك المشتري ، فأشبه ما لو كانت مسامير في باب المشتري . فإن قلنا : له الرجوع قبل القلع . فقلعوه ، لزمهم تسوية الأرض من الحفر ، وأرش نقص الأرض الحاصل به ; لأن ذلك نقص حصل لتخليص ملك المفلس ، فكان عليه ، كما لو دخل فصيله دار إنسان وكبر ، فأراد صاحبه إخراجه ، فلم يمكن إلا بهدم بابها ، فإن الباب يهدم ليخرج ، ويضمن صاحبه ما نقص ، بخلاف ما إذا وجد البائع عين ماله ناقصة . فرجع فيها ، فإنه لا يرجع في النقص لأن النقص كان في ملك المفلس ، وهنا حدث بعد رجوعه في العين ، فلهذا ضمنوه ، ويضرب بالنقص مع الغرماء

                                                                                                                                            وإن قلنا : ليس له الرجوع قبل القلع . لم يلزمهم تسوية الحفر ، ولا أرش النقص ; لأنهم فعلوا ذلك في أرض المفلس قبل رجوع البائع فيها ، فلم يضمنوا النقص ، كما لو قلعه المفلس قبل فلسه ، فأما إن امتنع المفلس والغرماء من القلع ، فلهم ذلك ، ولا يجبرون عليه ; لأنه غرس بحق . ومفهوم قوله عليه السلام : { ليس لعرق ظالم حق } . أنه إذا لم يكن ظالما فله حق

                                                                                                                                            فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء ، ليكون له الكل . أو قال : أنا أقلع ، [ ص: 277 ] وأضمن ما نقص فإن قلنا : له الرجوع قبل القلع . فله ذلك ; لأن البناء والغراس حصل في ملكه لغيره بحق ، فكان له أخذه بقيمته ، أو قلعه وضمان نقصه ، كالشفيع إذا أخذ الأرض وفيها غراس وبناء للمشتري ، والمعير إذا رجع في أرضه بعد غرس المستعير

                                                                                                                                            وإن قلنا : ليس له الرجوع قبل القلع . لم يكن له ذلك ; لأن بناء المفلس وغرسه في ملكه ، فلم يجبر على بيعه لهذا البائع ، ولا على قلعه ، كما لو لم يرجع في الأرض . فأما إن امتنع البائع من بذل ذلك ، سقط حق الرجوع . وهذا قول ابن حامد ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي . وقال القاضي : يحتمل أن له الرجوع . وهو القول الثاني للشافعي ; لأنه أدرك متاعه بعينه ، وفيه مال المشتري على وجه التبع ، فلم يمنعه ذلك الرجوع ، كالثوب إذا صبغه المشتري

                                                                                                                                            ولنا ، أنه لم يدرك متاعه على وجه يمكنه أخذه منفردا عن غيره ، فلم يكن له أخذه ، كالحجر في البناء ، والمسامير في الباب ، ولأن في ذلك ضررا على المشتري والغرماء ، ولا يزال الضرر ، ولأنه لا يحصل بالرجوع هاهنا انقطاع النزاع والخصومة ، بخلاف ما إذا وجدها غير مشغولة بشيء . وأما الثوب إذا صبغه ، فلا نسلم له الرجوع ، فهو كمسألتنا ، فالفرق بينهما من وجهين ; أحدهما ، أن الصبغ تقرر في الثوب ، فصار كالصفة فيه ، بخلاف البناء والغرس ، فإنه أعيان متميزة ، وأصل في نفسه . والثاني ، أن الثوب لا يراد للبقاء ، بخلاف الأرض والبناء ، فإذا قلنا : لا يرجع . فلا كلام . وإن قلنا : يرجع . فرجع ، واتفق الجميع على بيعهما ، بيعا لهما ، وأخذ كل واحد بقدر حقه

                                                                                                                                            وإن امتنع أحدهما من البيع ، احتمل أن يجبر عليه ، كما لو كان المبيع ثوبا ، فصبغه المشتري ، فإن الثوب يباع لهما ، كذا هاهنا . ويحتمل أن لا يجبر ; لأنه أمكن طالب البيع أن يبيع ملكه مفردا ، بخلاف الثوب المصبوغ ، فإن بيعا لهما ، قسما الثمن على قدر القيمتين ، فتقوم الأرض غير ذات شجر ولا بناء ، ثم تقوم وهما فيها ، فما كان قيمة الأرض بغير غراس ولا بناء ، فللبائع قسطه من الثمن ، وما زاد فهو للمفلس والغرماء . وإن قلنا : لا يجبر الممتنع على البيع . أو لم يطلب أحدهما البيع

                                                                                                                                            فاتفقا على كيفية كونهما بينهما ، جاز ما اتفقا عليه ، وإن اختلفا ، كانت الأرض للبائع ، والغراس والبناء للمفلس والغرماء ، ولهم دخول الأرض لسقي الشجر وأخذ الثمرة ، وليس لهم دخولها للتفرج ولغير حاجة ، وللبائع دخولها للزرع ، ولما شاء ; لأن الأرض له وملكه . وإن باعوا الشجر والبناء لإنسان ، فحكمه في ذلك حكمهم . ولو بذل المفلس والغرماء ، أو المشتري منهم ، قيمة الأرض للبائع ، ليدفعها لهم ، لم يلزمه ذلك ; لأن الأرض أصل ، فلا يجبر على بيعها ، بخلاف ما فيها من الغرس والبناء .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية