الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3541 ) فصل : إذا كان بينهما حائط فطلب أحدهما إعادته فأبى الآخر مشترك ، فانهدم ، فطلب أحدهما إعادته ، فأبى الآخر ، فهل يجبر الممتنع على إعادته ؟ قال القاضي : فيه روايتان : إحداهما ، يجبر . نقلها ابن القاسم ، وحرب ، وسندي . قال القاضي : هي أصح . وقال ابن عقيل : وعلى ذلك أصحابنا . وبه قال مالك ، في إحدى روايتيه ، والشافعي في قديم قوليه . واختاره بعض أصحابه ، وصححه ; لأن في ترك بنائه إضرارا ، فيجبر عليه ، كما يجبر على القسمة إذا طلبها أحدهما ، وعلى النقض إذا خيف سقوطه عليهما ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا ضرر ولا إضرار } . وهذا وشريكه يتضرران في [ ص: 330 ] ترك بنائه . والرواية الثانية ، لا يجبر .

                                                                                                                                            نقل عن أحمد ما يدل على ذلك ، وهو أقوى دليلا ، ومذهب أبي حنيفة ; لأنه ملك لا حرمة له في نفسه ، فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه ، كما لو انفرد به ، ولأنه بناء حائط ، فلم يجبر عليه ، كالابتداء ، ولأنه لا يخلو ، إما أن يجبر على بنائه لحق نفسه ، أو لحق جاره ، أو لحقيهما جميعا ، لا يجوز أن يجبر عليه لحق نفسه ، بدليل ما لو انفرد به ، ولا لحق غيره ، كما لو انفرد به جاره ، فإذا لم يكن كل واحد منهما موجبا عليه ، فكذلك إذا اجتمعا . وفارق القسمة ، فإنها دفع للضرر عنهما بما لا ضرر فيه ، والبناء فيه مضرة ، لما فيه من الغرامة وإنفاق ماله ، ولا يلزم من إجباره على إزالة الضرر بما لا ضرر فيه ، إجباره على إزالته بما فيه ضرر ، بدليل قسمة ما في قسمته ضرر .

                                                                                                                                            ويفارق هدم الحائط إذا خيف سقوطه ; لأنه يخاف سقوط حائطه على ما يتلفه ، فيجبر على ما يزيل ذلك ، ولهذا يجبر عليه ، وإن انفرد بالحائط ، بخلاف مسألتنا .

                                                                                                                                            ولا نسلم أن في تركه إضرارا ، فإن الضرر إنما حصل بانهدامه ، وإنما ترك البناء ترك لما يحصل النفع به ، وهذا لا يمنع الإنسان منه ، بدليل حالة الابتداء ، وإن سلمنا أنه إضرار ، لكن في الإجبار إضرار ، ولا يزال الضرر بالضرر ، وقد يكون الممتنع لا نفع له في الحائط ، أو يكون الضرر عليه أكثر من النفع ، أو يكون معسرا ليس معه ما يبني به ، فيكلف الغرامة مع عجزه عنها ، فعلى هذه الرواية إذا امتنع أحدهما لم يجبر ، فإن أراد شريكه البناء فليس له منعه منه ; لأن له حقا في الحمل ورسما ، فلا يجوز منعه منه ، وله بناؤه بأنقاضه إن شاء ، وبناؤه بآلة من عنده ، فإن بناه بآلته وأنقاضه ، فالحائط بينهما على الشركة ، كما كان ; لأن المنفق عليه إنما أنفق على التالف وذلك أثر لا عين يملكها .

                                                                                                                                            وإن بناه بآلة من عنده ، فالحائط ملكه خاصة ، وله منع شريكه من الانتفاع به ، ووضع خشبه ورسومه عليه ; لأن الحائط له . وإذا أراد نقضه ، فإن كان بناه بآلته لم يملك نقضه ; لأنه ملكهما ، فلم يكن له التصرف فيه [ بما ] فيه مضرة عليهما . وإن بناه بآلة من عنده ، فله نقضه ; لأنه ملكه خاصة . فإن قال شريكه : أنا أدفع إليك نصف قيمة البناء ولا تنقضه . لم يجبر ; لأنه لما لم يجبر على البناء لم يجبر على الإبقاء .

                                                                                                                                            وإن أراد غير الباني نقضه ، أو إجبار بانيه على نقضه ، لم يكن له ذلك ، على الروايتين جميعا ; لأنه إذا لم يملك منعه من بنائه ، فلأن لا يملك إجباره على نقضه أولى ، فإن كان له على الحائط رسم انتفاع ، ووضع خشب ، قال له : إما أن تأخذ مني نصف قيمته ، وتمكنني من انتفاعي ووضع خشبي ، وإما أن تقلع حائطك ، لنعيد البناء بيننا . فيلزم الآخر إجابته ; لأنه لا يملك إبطال رسومه وانتفاعه ببنائه .

                                                                                                                                            وإن لم يرد الانتفاع به ، فطالبه الباني بالغرامة أو القيمة ، لم يلزمه ذلك ; لأنه إذا لم يجبر على البناء ، فأولى أن لا يجبر على الغرامة ، إلا أن يكون قد أذن في البناء والإنفاق ، فيلزمه ما أذن فيه ، فأما على الرواية الأولى ، فمتى امتنع أجبره الحاكم على ذلك ، فإن لم يفعل ، أخذ الحاكم من ماله وأنفق عليه ، وإن لم يكن له مال ، فأنفق عليه الشريك بإذن الحاكم ، أو إذن الشريك ، رجع عليه متى قدر . وإن أراد بناءه ، لم يملك الشريك منعه ، وما أنفق ; إن تبرع به لم يكن له الرجوع به ، وإن نوى الرجوع به ، فهل له الرجوع بذلك ؟ يحتمل وجهين ، بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه .

                                                                                                                                            وإن بناه لنفسه بآلته ، فهو بينهما . وإن بناه بآلة من عنده ، فهو له خاصة . فإن أراد نقضه ، فله ذلك ، إلا أن يدفع إليه شريكه نصف قيمته ، فلا يكون له نقضه ; لأنه إذا أجبر على [ ص: 331 ] بنائه ، فأولى أن يجبر على إبقائه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية