الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وبهدم بناء بطريق ، ولو لم يضر )

                                                                                                                            ش : ذكر رحمه الله فيمن اقتطع سبيلا من طريق المسلمين ، وتزيده وأدخله في بنيانه قولين أحدهما وهو المشهور أنه يهدم عليه ما يزيده من الطريق وأدخل في بنائه ، ولو كان الطريق واسعا جدا لا يضره ما اقتطعه منه ، والقول الثاني أنه إن كان ما اقتطعه يضر بالطريق هدم عليه وإلا فلا ، وهو المشار إليه بلو في قوله ، ولو لم يضر وفهم من كلام المصنف أن الخلاف المذكور إنما هو بعد الوقوع .

                                                                                                                            وأما ابتداء فلا يجوز البناء بلا خلاف وهو كذلك ، وكذلك فهم من كلامه أنه لو كان البناء مضرا بالطريق لهدم عليه بلا خلاف وهو كذلك أيضا كما ستقف عليه في كلامهم قال في العتبية في كتاب السلطان في سماععبد الملك الملقب بزونان وسألته عن الرجل يتزيد في داره من طريق المسلمين ذراعا ، أو ذراعين فإذا بنى جدارا وأنفق عليه وجعله بيتا قام عليه جاره الذي هو مقابله من جانب الطريق فأنكر عليه ما تزيد ، ورفعه إلى السلطان وأراد أن يهدم ما تزيد من الطريق وزعم أن سعة الطريق كان رفقا به ; لأن ذلك كان فناء له ومربطا لدابته وفي بقية الطريق ممر [ ص: 153 ] للناس وكان فيما بقي من سعة الطريق ثمانية أذرع ، أو تسعة هل لذلك الجار إلى هدم بنيان جاره الذي بنى سبيل ، أو رفع ذلك بعض من كان يسلك تلك الطريق وفي بقية سعته ما قد أعلمتك فقال يهدم ما بنى ، وإن كان في سعة الطريق ثمانية أذرع ، أو تسعة لا ينبغي لأحد التزيد من طريق المسلمين .

                                                                                                                            وينبغي للقاضي أن يقدم في ذلك إلى الناس ، وينهى إليهم أن لا يحدث أحد بنيانا في طريق المسلمين وذكر أن عثمان بن الحكم الجذامي حدثه عن عبيد الله بن عمر عن أبي حازم أن حدادا ابتنى كيرا في سوق المسلمين قال فمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرآه فقال : لقد انتقصتم السوق ثم أمر به فهدمه قال أشهب : نعم يأمر السلطان بهدمه رفع ذلك إليه من كان يسلك الطريق ، أو رفع ذلك جيرانه لا ينبغي لأحد التزيد من طريق المسلمين كان في الطريق سعة ، أو لم يكن ، كان مضرا ما تزيد ، أو لم يكن مضرا يؤمر بهدمه ، وينبغي للسلطان أن يتقدم في ذلك إلى الناس أن لا يتزيد أحد من طريق المسلمين قال ابن رشد : اتفق مالك ، وأصحابه فيما علمت أنه لا يجوز لأحد أن يقتطع من طريق المسلمين شيئا فيتزيده في داره ويدخله في بنيانه ، وإن كان الطريق واسعا جدا لا يضره ما اقتطع منه ، واختلفوا إن تزيد في داره من الطريق الواسعة جدا ما لا يضر بها ، ولا يضيقها على المارة فيها فقال ابن وهب وأشهب : يهدم عليه ما تزيد من الطريق وتعاد إلى حالها وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه وقول مطرف وابن الماجشون في الأبرجة يبنيها الرجل في الطريق ملصقة بجداره واختيار ابن حبيب على ظاهر ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الكير الذي أنشئ في السوق فأمر به فهدم ووجه هذا القول أن الطريق حق لجميع المسلمين كالحبس فوجب أن يهدم على الرجل ما تزيده في داره منها كما يهدم عليه ما تزيد من أرض محبسة على طائفة من المسلمين ، أو من ملك الرجل بعينه وقيل إنه لا يهدم عليه ما تزيده من الطريق إذا كان ذلك لا يضر بها لسعتها لما له من الحق فيه إذ هو بناؤه له الانتفاع به وكراؤه ، والأصل في ذلك ما جاء من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى بالأفنية لأرباب الدور ، وأفنيتها ما أحاط بها من جميع نواحيها فلما كان أحق بالانتفاع من غيره ولم يكن لأحد أن ينتفع به إلا إذا استغنى هو عنه وجب أن لا يهدم عليه بنيانه فيذهب ماله هدرا وهو أعظم الناس حقا في ذلك الموضع بل لا حق لأحد معه فيه إذا احتاج إليه فكيف إذا لم يتوصل إلى أخذه منه مع حاجته إليه إلا بهدم بنيانه وتلف ماله ، وهذا بين لا سيما ومن أهل العلم من يبيح له ذلك ابتداء في المجموعة من رواية ابن وهب عن ابن سمعان أن من أدرك من العلماء قالوا في الطريق يريد أهلها بنيان عرصتها أن الأقربين إليها يقتطعونها على قدر ما شرع فيها من رباعهم بالحصص فيعطى صاحب الربع الواسع بقدره ، وصاحب الصغير بقدره ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع قال ابن رشد : وإنما قالوا ثمانية أذرع احتياطا ، والله أعلم .

                                                                                                                            ليستوفي فيها السبعة الأذرع المذكورة في الحديث على زيادة الذراع ونقصانه ، وهذا القول الثاني أظهر والقائلون بالأول أكثر وكل مجتهد مصيب ، وقد نزلت بقرطبة قديما واختلف الفقهاء فيها فأفتى ابن لبابة وأبو صالح أيوب بن سليمان ومحمد بن الوليد بأنه لا يهدم ما تزيده من الطريق إذا كان ذلك لا يضر بها وأفتى عبد الله بن يحيى وابنه يحيى ويحيى بن عبد العزيز وسعد بن معاذ وأحمد بن بيطير بأن يهدم ما تزيد منه على كل حال وبالله التوفيق انتهى .

                                                                                                                            وما استظهره ابن رشد بأنه لا يهدم عليه ما تزيد من الطريق إذا كان ذلك لا يضر بها أفتى به أيضا في نوازله ، ورجحه في سؤال كتب به إليه القاضي عياض يسأله عن شخص بنى حائطا بجنته في بطن واد ، وقد كان حائطه دون ذلك فأجابه إن كان الحائط الذي بناه يضر بالطريق ، أو بجاره [ ص: 154 ] فيهدم ما بناه ، وإن كان الحائط لا يضر بالطريق ، ولا بجاره لم يهدم عليه ، وهذا على القول بأن من تزيد من طريق المسلمين في داره ما لا يضر بالطريق لا يهدم بنيانه ، والذي يترجح عندي من القولين أنه لا يهدم عليه بنيانه إذا لم يضر بالطريق لما له من الحق في البناء وهو الذي أقول به في هذه المسألة ، وأن من أهل العلم من يبيح ذلك ابتداء انتهى .

                                                                                                                            ، وقال في العتبية أيضا في رسم الأقضية ، والحبس من كتاب السلطان : قال أصبغ : سألت أشهب عن رجل يهدم داره وله الفناء الواسع فيزيد فيها من الفناء يدخله بنيانه ، ثم يعلم بذلك قال : لا يتعرض له إذا كان الفناء واسعا وبراحا لا يضر الطريق ، وقد كرهه مالك وأنا أكرهه ، ولا آمر به ، ولا أقضي عليه بهدمه إذا كان الطريق واسعا وبراحا لا يضر ذلك بشيء منه ، ولا يحتاج إليه ، ولا يقاربه المشي قال أصبغ في الرجل يبني دارا له فيأخذ من طريق المسلمين شيئا يزيده فيها كان ذلك مضرا بطريق المسلمين ، أو لا يضر أترى ذلك جائزا وهل تجوز شهادة مثل هذا قال أصبغ : إن كان اقتطعه اقتطاعا فما يضر بالطريق والمسلمين وأدخله في بنيانه وكان إدخاله فيما يرى بمعرفة لا بجهالة ، أو وقف عليه فلم يبال فلا أرى أن تجوز شهادته ، ويهدم بنيانه إذا أضر جدا ، وإن كانت الطريق واسعة جدا كبيرة وكان الذي أخذ الشيء اليسير جدا الذي لا يضر ، ولا يكون فسادا في صغير ما أخذ وسعة الطريق وكثرته فلا أرى أن يهدم بنيانه ، ولا يعرض له ، وقد سألت أشهب عنها بعينها ونزلت عندنا فكان هذا رأيي فيها فسألته عنها فقال لي مثله قال ابن رشد هذا من قول أصبغ وروايته عن أشهب خلاف ما مضى قبل هذا في سماع زونان ، وقد مضى القول على ذلك هناك مجودا مستوفى فلا وجه لإعادته هنا ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                            ويشير بذلك لكلامه المتقدم ، ونقل ابن عرفة كلام ابن رشد المتقدم مختصرا فقال : قال ابن رشد : ولا يباح لذي الفناء أن يدخله في داره فإن فعل وهو يضر بالطريق هدم عليه ورد كما كان ، وإن كان لا يضر ففي هدمه قولان لسماع زونان ابن وهب مع أشهب وأصبغ مع سماعه من أشهب ، والقائلون بالأول أكثر ، والثاني أظهر انتهى .

                                                                                                                            وقد استوفى ابن سهل في أحكامه الكبرى الكلام على هذه المسألة في مسائل الاحتساب في ترجمة الاحتساب على ابن السليم فيما اقتطعه من المحجة وضمه إلى جنته وذكر النازلة بقرطبة التي أشار إليها ابن رشد في كلامه المتقدم ، وذكر فتاوى المشايخ الذين ذكرهم ابن رشد وغيرهم ولم يخرج أحد منهم في استدلاله عن مسألة العتبية ، وقد نقل في أثناء جواب يحيى بن عبد الله بن يحيى عن محمد بن أصبغ أن أباه أصبغ رجع عن قوله أنه لا يهدم ما لا يضر إلى أنه يهدم .

                                                                                                                            ونصه : وحدثني محمد بن أصبغ بن الفرج أن أباه أصبغ رجع عن قوله فيمن اقتطع من أفنية المسلمين شيئا ، وأدخله في داره أنه إذا كان واسعا رحراحا أنه لا يهدم فرجع عن ذلك ، وقال : ويهدم ويرد إلى حالته ، وقال : إن الأفنية ، والطريق كالأحباس للمسلمين لا يجوز لأحد أن يحدث فيها حدثا إلا من ضرورة ، واضطر إلى ذلك ثم نقل عن ابن غالب في أثناء جوابه ما نصه : ورأيت بعض أصحابنا قد ذهب إلى اختيار قول أصبغ : إنه لا يهدم على المقتطع من طريق المسلمين ما اقتطع إذا كان الطريق واسعا رحراحا فاختار برأيه ما رآه صوابا .

                                                                                                                            والذي نراه ، والله نسأله التوفيق اتباع قول المتقدمين يعني الهدم وهو إلى التوفيق أقرب إن شاء الله ، والعجب من الذي اختار قول أصبغ كيف فارق قول عمر المعروف عنه وما علمته أرخص فيها لأحد قط وما أظن به إلا أنه اجتهد ، والله نسأله التوفيق ثم قال في آخر كلامه بعد ذكر أجوبتهم : وقد ذكر ابن حبيب رحمه الله هذه المسألة في كتابه بأحسن مساق وأقرب ألفاظ وأبين معان مما وقع في العتبية ، ولم يذكر ذلك كل [ ص: 155 ] واحد ، ولا خرجوا عما في العتبية فدل على مغيب ما في كتاب ابن حبيب عنهم وعزوبه عن ذكرهم ورأيت نقله إذ فيه تتميم لمسألتهم .

                                                                                                                            قال ابن حبيب : سألت مطرفا وابن الماجشون عن الرجل يبني أبرجة في الطريق ملصقة بجداره هل يمنع من ذلك ويؤمر بهدمها إذا فعل ذلك فقالا لي : نعم ليس له أن يحدث في الطريق شيئا ينتقصه به ، وإن كان ما أبقى من الطريق واسعا لمن سلكه قال ابن حبيب : وسألت أصبغ بن الفرج عن ذلك فقال لي : إن له ذلك إذا كان ما وراءها من الطريق واسعا قال لي أصبغ : وذلك أن عمر بن الخطاب قضى بالأفنية لأرباب الدور .

                                                                                                                            وقال لي : فالأفنية دون الدور كلها مقبلها ومدبرها ينتفعون بها ما لم تضيق طريقا ، أويمنع ما يضر بالمسلمين فإذا كان لهم الاتساع بغير ضرورة حموه إن شاء الله ، ومن أدخل منهم في بنيانه ما كان له أن يحميه ببرج يسد داره ، أو حظر حظيرة وزاده في داره لم ير أن يعرض له ، ولا يمنع إذا كان الطريق وراءه واسعة منبسطة لا تضر بوجه من الوجوه ، ولا تضيق قال : وأكره له ابتداء أن يحظره ، أو يدخله في بنيانه مخافة الإثم عليه ، وإن فعل لم أعرض عليه فيه بحكم ولم أمنعه منه وقلدته منه ما تقلد .

                                                                                                                            وقد بلغني أن مالكا كره له البنيان ، وأنا أكره له بدءا فإذا فات على ما وصفنا لم أر أن يعرض له فيه قال أصبغ : وقد نزل مثل هذا عندنا ، واستشارني فيه السلطان وسألني النظر إليه يومئذ ، فنظرت فرأيت أمرا واسعا جدا فجا من الفجاج وكان له محيط محظور عن الطريق يجلس فيه الباعة فكسره ، وأدخله في بنيانه فرأيت ذلك واسعا ، وأشرت به على السلطان فحكم به ، وسألت عنه أشهب يومئذ فذهب مذهبي ، وقال مثل قولي قال ابن حبيب : وقول مطرف وابن الماجشون فيه أحب إلي وبه أقول إلا أن يكون له أن ينتقص الطريق والفناء ببناء يسد به جداره ، أو يدخله في داره ، وإن كانت الطريق واسعة صحراء في سعتها ; لأنها حق لجميع المسلمين ليس لأحد أن ينتقصه كما لو كان حقا لرجل لم يكن لهذا أن ينتقصه إلا بإذنه ورضاه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين } وإنما يفسر قضاء عمر بن الخطاب بالأفنية لأرباب الدور بالانتفاع للمجالس ، والمرابط والمساطب وجلوس الباعة فيه للبياعات الخفيفة ، والأفنية وليس بأن تحاز للبنيان ، والتحظير ، وكذلك سمعت من أرضى من أهل العلم يقول في تأويل ذلك ثم ذكر ابن حبيب خبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هدم كير الحداد وأثرا عن النبي صلى الله عليه وسلم في اقتطاع الأفنية والطرق والوعيد في ذلك في المجموعة روى ابن وهب عن ابن سمعان أن من أدرك من العلماء قالوا في الطريق يريد أهلها بنيان عرصتها أن الأقربين يقتطعونها بالحصص على قدر ما شرع فيها من رباعهم فيعطى صاحب الربعة الواسعة بقدر ما شرع فيها من رباعهم وصاحب الصغيرة بقدرها ويتركون لطريق المسلمين قال القاضي ابن سهل : وهذا أشد ما أنكره منكرهم من قول أصبغ ; لأن أصبغ كرهه ابتداء ورأى أن تركه لمن فعله إذا كان واسعا رحراحا فجا من الفجاج ، وقال ابن أبي زيد في نوادره : قال لنا أبو بكر بن محمد اختلف أصحابنا فيمن يزيد في بنيانه من الفناء الواسع لا يضر فيه بأحد فروى ابن وهب عن مالك أنه ليس له ذلك ، وقال عنه ابن القاسم لا يعجبني ذلك ولابن وهب عن ربيعة في المجموعة من بنى مسجدا في طائفة من داره فلا يتزيد فيه من الطريق ، وقال مالك : لا بأس بذلك إن كان لا يضر بالطريق وفي كتاب ابن سحنون وسأله ابن حبيب عمن أدخل في داره من زقاق المسلمين النافذ شيئا فلم يشهد به الجيران إلا بعد عشرين سنة قال إذا صحت البينة فليرد ذلك إلى الزقاق ، ولا تحاز الأزقة وفي موضع آخر إن كان ضرر ذلك بينا ، ولا عذر للبينة في ترك القيام فهي [ ص: 156 ] جرحة ، وهذا كله لم يقف القوم عليه ، ولا بلغهم مطالعته ، ولو علموه لنقلوه وآثروا ذكره وقول محمد بن غالب : والعجب من الذي اختار قول أصبغ كيف فارق قول عمر هو أعجب مما تعجب منه ; لأنه تكلم بغير تدبر وأنكر قبل أن يفكر ; لأن قول أصبغ قد رواه عن أشهب فصار ذلك مختارا لقولهما وقول أصبغ وروايته عن أشهب ينضاف إليها ما ذكر لابن سمعان عمن أدرك من العلماء ويوشك أن يكونوا من التابعين مع اختلاف قول مالك في هذا الأصل ، ومن استظهر بهذا كله في جوابه لا يتسع عليه في مخالفة عمر رضي الله عنه ; لأن هؤلاء كلهم لم يخالفوه إلا إلى أصل اجتمعوا على القول به إلا عن علم مع أن حديث عمر وجواب أصبغ ومن وافقه مختلف المعنى في الظاهر ; لأن المعهود في طريق الأسواق أن فيها الضيق في ساحتها على أن ينتقص منها وهي مجتمع الناس فهم يحتاجون إلى حيث يجولون ويتصرفون ، وكذلك في حديث عمر أنه قال حين أمر بهدم الكير : يضيقون على الناس والطريق في مسألة أصبغ كان واسعا ظاهر الاتساع غير مضر بالمارة ، وكان الاستحسان عنده لمن تزيد من مثل هذا الطريق أن يترك لئلا يفسد عليه ما بنى ويذهب إنفاقه باطلا ولعله كان مضطرا إلى ذلك لضيق ساحة داره وتقصيرها عما يقوم به في مسكنه ، فالمختار على هذا غير مخالف بل هو مجتهد في النظر واضع للاستحسان في موضعه ، والله ولي التوفيق انتهى كلام ابن سهل بلفظه ( تنبيهان الأول ) تحصل من هذا ما تقدم في كلام ابن رشد أنه اتفق مالك وأصحابه أنه لا يجوز لأحد ابتداء أن يقتطع من الطريق شيئا ويدخله في بنيانه ، وإن كان الطريق واسعا جدا لا يضره ما اقتطع منه فإن اقتطع منها شيئا وأدخله في بنيانه فإن كان مما يضر بها ويضيقها على المارة هدم عليه ما تزيد منها وأعيدت إلى حالها بلا خلاف ، وإن كان مما لا يضر بها ، ولا يضيقها على المارة فاختلف في ذلك على قولين ( الأول ) أنه يهدم عليه ما تزيد منها وتعاد إلى حالها وهو الذي شهره المصنف ( الثاني ) أنه لا يهدم عليه ما تزيد منها إذا كان ذلك لا يضر بها ، ولا يضيقها على المارة لسعتها ، واستظهره ابن رشد في البيان ورجحه في نوازله وهو المشار إليه بلو في قول المصنف : ولو لم يضر ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني ) إن قيل : قول ابن رشد في أول كلامه اتفق مالك وأصحابه فيما علمت أنه لا يجوز لأحد أن يقتطع من طريق المسلمين شيئا إلى آخر كلامه السابق يناقضه قوله في آخر كلامه في البيان بعد استظهاره للقول بعدم الهدم لا سيما من أهل العلم من يبيح له ذلك ابتداء ، واستشهاده على الجواز ابتداء بما في المجموعة من رواية ابن وهب عن ابن سمعان عمن أدرك من العلماء بما قالوه في الطريق يريد أهلها بنيان عرصتها إذ مقتضى ذلك وجود الخلاف في البناء ابتداء ، وكذا قوله في نوازله بعد ترجيحه للقول بعدم الهدم إذ من أهل العلم من يبيح له ذلك ابتداء فالجواب أن مراده بأهل العلم خارج المذهب كما دل على ذلك كلام ابن سهل المتقدم حيث قال : وقول أصبغ وروايته عن أشهب ينضاف إليها ما ذكره ابن سمعان عمن أدرك من العلماء ويوشك أن يكونوا من التابعين ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية