الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فقول القائل: لا يكون الموجود إلا مباينا أو محايثا كقوله لا يعقل موجود إلا قديما أو محدثا بالاعتبارين الذاتي والإضافي، فإنه إن أراد بالقديم ما لم يسبقه عدم، والمحدث ما سبقه عدم، فالمباين هو القائم بنفسه، والمحايث ما لا يقوم بنفسه، وذلك في الموضعين تابع لوجوده ووجوب وجوده.

وإن أراد بالقديم ما تقدم على غيره، وبالمحدث ما تقدمه غيره، فالمباين ما باين غيره وقام بنفسه، والمحايث ما كان قيامه

[ ص: 176 ] بغيره لا يباينه.

وقول القائل: إما أن يكون داخل العالم أو خارجه، كقول القائل: إما أن يكون مع العالم أو قبله، فإن محايثته للعالم في المكان ومجامعته للعالم في الحيز، كمقارنته للعالم في الزمان ومجامعته له فيه، وهو إما أن يكون محايثا للعالم أو مباينا له، وإما أن يكون مقارنا للعالم أو متقدما عليه، وكذلك كل موجود مع وجود غيره، إما أن يكون قبله أو لا يكون، وإذا لم يكن قبله، فإما أن يكون معه أو بعده، وإما أن يكون مباينا له أو لا يكون، وإذا لم يكن مباينا له، فإما أن يكون محلا له أو حالا فيه.

والحجة التي حكاها المنازع لم يحررها تحريرا يظهر فيه التماثل، فإنه قال: "لا نعقل موجودا خاليا عن القدم أو الحدوث / فكذلك لا نعقل موجودا ليس في العالم ولا خارج العالم ولا في شيء من جهاته الست".

وكان تحرير التماثل أن يقال: لا يعقل موجودان إلا أن يكون أحدهما متقدما على الآخر، أو هما متقارنان فكذلك لا يعقل موجودان، إلا أن يكون أحدهما خارجا عن الآخر، بائنا منه، أو يكونا متحايثين، فيكون أحدهما داخلا في الآخر، أو [ ص: 178 ] يقال: لا يعقل موجود خال عن القدم أو الحدوث، فكذلك لا يعقل موجود خال عن المباينة والمحايثة، ونحو ذلك ما يظهر به تماثل التباين.

ومما يوضح ذلك أن من قال: العالم قديم، والباري متقدم عليه بالذات والغلبة وغير ذلك. وهو محدث باعتبار تقدمه عليه، يمكنه أن يقول أيضا: إن الباري فوق العالم بالذات والغلبة والرتبة وغير ذلك، وهو تحته باعتبار علوه عليه، ومن قال إنه متقدم عليه تقدما حقيقيا بحيث يقدر الذهن [بين] وجوده ووجود العالم أزمنة لا نهاية لها، كما يقدر ذلك في وجوده مفردا، وإن لم يكن لذلك وجود يقول إنه ظاهر عال على العالم ظهورا وعلوا حقيقيا، بحيث يقدر الذهن بينه وبين العالم أحيازا خالية، كما يقدر ذلك في وجوده ووجود العالم، وإذا كان ذلك تقديرا لما لا وجود له في الخارج، فمن جعل علوه على العالم ليس إلا بالرتبة والقدرة ونحوهما، فهو شبيه بمن جعل تقدمه على العالم ليس إلا بالرتبة والتوليد [ ص: 179 ] ونحوهما، وهذا في الحقيقة إنكار لكونه الأول، وإثبات لمقارنة العالم له في الزمان، وذلك إنكار لكونه هو الظاهر وإثبات لمقارنة العالم له في المكان، وكلا القولين يعود إلى تعطيل الصانع في الحقيقة، وأنه ما ثم غير هذا العالم؛ ولهذا كان الاتحادية وغيرهم من هؤلاء يصرحون بذلك، ويقولون: إن العالم هو حقيقته وهويته.

وهذا في الحقيقة قول المعطلة للصانع كما أظهره فرعون، ولهذا يعترف أئمتهم بأنهم على قول فرعون، وكنت قد ذكرت أنه يلزمهم قول فرعون لبعض من له خبرة وصدق حتى حدثني عن إمام من أئمتهم أنه قال له: ونحن على قول فرعون. والله سبحانه قبل الأزمنة وفوق الأمكنة؛ ولكن الذهن يقدر تقدمه بدهر وتقدم فوقيته بحيز، كما تقدم ذكره، وهما أمران ذهنيان مقدران، لا وجود لهما في الخارج عند جمهور الناس؛ لكن بين النوعين فرق لابد منه، وهو أن الدهر المقدر والزمان الموجود هو يقتضي شيئا بعد شيء، لا يجتمع أوله وآخره في زمان واحد، [ ص: 180 ] ولهذا يمكن ألا يكون له نهاية في وجوده كالزمان؛ فإن أهل الجنة ونحوهم لا نهاية لوجودهم. وأما الحيز المقدر والمكان الموجود فإنه موجود في وقت واحد لا يوجد شيئا بعد شيء، فلابد له من حد وحقيقة / ولا يمكن وجود مكان لا نهاية له، ولا جسم لا نهاية له.

فلهذا كان الفرق بين تقدمه على العالم ومباينته له أنه في تقدمه على ما يتقدم عليه من خلقه يمكن فرض أزمنة لا نهاية لها، وأما مباينته لما يباينه من خلقه فلا يمكن أن يفرض بينهما أمكنة لا نهاية لها، ولهذا لم يكن لابتداء وجوده ولا لدوام بقائه حد ولا نهاية ولا غاية، ولا يقال مثل ذلك في عظمة ذاته وقدره، بل يقال: لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103] ولا يحيطون به علما [طه: 110] وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة [الزمر: 67] ونحو ذلك.

ولهذا كان الجهم وأبو الهذيل وهما إماما الجهمية وغيرهما لما قاسوا النهاية في الذات والمكان، على النهاية في الوجود والزمان عدوا حكم هذا إلى حكم هذا، وحكم هذا إلى [ ص: 181 ] حكم هذا. فقال بأن المخلوق تثبت له النهايتان جميعا، وأثبتوها فـ الانتهاء، فقال الجهم بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل بفناء الحركات كلها، وقالوا بأن الخالق تعالى لا تثبت له النهايتان جميعا، فكما لا نهاية لابتداء وجوده وانتهائه، فلا يكون لذاته نهاية، ثم تفرعت بهم وبأصحابهم المقالات، كما تقدم نقل المقالات السبع لهم: هل يقال إنه لا يتناهى وليس بجسم، أو هو جسم أو غير ذلك من الأقوال التي تقدمت.

وقد تقدم ذكر عثمان بن سعيد أن أول من قال بعدم الحد [ ص: 182 ] والنهاية وهو الجهم، ولا خلاف أنه أول [من] قال بفناء الجنة والنار.

وأعظم من هؤلاء ضلالا المتفلسفة الصابئة الذين يقولون بعدم النهاية للعالم ابتداء وانتهاء كالصانع، ثم يثبتون النهاية لذات العالم دون الصانع، فسووه بالخالق في عدم النهاية ابتداء، وفرقوا بينهما في الذات. ثم هؤلاء الجهمية الذين أثبتوا النهاية للعالم ابتداء وانتهاء، وتكلموا في الفناء كما تكلموا في الحدوث، ونفوا عن الباري النهايتين، يوضح ذلك:

التالي السابق


الخدمات العلمية