الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثالث عشر: أن هؤلاء الجهمية يقولون: إنه لا تحله الصفات، ولا تقوم به، فإنه إذا قامت به الصفات والأعراض كان [ ص: 50 ] محتاجا إليها، وكانت مقومة له ومنافية لوحدته ووجوب وجوده وقدمه. فإذا قال منهم طائفة بأن المخلوقات كلها تحله وتقوم به كان هذا مع [ما] فيه من الكفر والضلال في الاختلاف والتناقض أعظم من أن يوصف. وكذلك قالوا: إنه لا يكون فوق العرش لئلا يكون حالا بغيره وقائما بغيره وكائنا في كل مكان ونحو ذلك مع أنه متميز عن العرش منفصل عنه. فإذا قالوا: إنه حال في المخلوقات مختلط بالقاذورات، كان هذا مع ما فيه من الكفر والضلالات، من أعظم المتناقضات.

والمقصود: أن هؤلاء الجهمية لا يفرون من شيء من الحق لما يظنونه شبهة إلا وقعوا في أضعاف مضاعفة من الباطل، التي يلزمها ذلك المحذور عندهم، فهم دائما متناقضون، فإن كل من نفى عن الله أن يكون فوق العرش لابد أن يحتج بحجة تقتضي السلب والنفي، فهو مع قوله بالمحايثة أو قوله بالمباينة بلا محايثة يكون مثبتا لكل ما سلبه ولأضعافه، أو يلزمه ذلك، فلم يستفيدوا إلا التناقض في المقال، وجحدوا الخالق وهذا من أعظم الضلال. ونفس تناقض القولين يقتضي فساده، فكيف بما زاد على ذلك.

فإنهم إذا قالوا الوجود الواجب لا يكون إلا واحدا ليس هو [ ص: 51 ] صفة ولا قدرة، ونحو ذلك مما أصل قولهم [يقتضيه] فكل ما يقولونه بعد ذلك من كونه بكل مكان، أو كونه داخل العالم وخارجه، أو كونه هو الوجود القائم بالكائنات ونحو ذلك مما يناقض هذا؛ فإن المحايث لجواهر العالم وأعراضه يجب أن يوصف بما توصف به الجواهر والأعراض من التركيب والانقسام وغير ذلك، وإن لم يوصف بذلك مع قولهم بالمحايثة له كان هذا مع فساده في ضرورة العقل ناقضا لجميع أصولهم؛ فإنهم إذا جعلوا ذاتين متحايثتين، وجعلوا إحداهما منقسمة ومركبة وغير ذلك دون الأخرى، وجعلوا الواحد الذي لا تركيب فيه محايثا لكل تركيب كان هذا مفسدا لكل حجة لهم / وقولهم إنه غير محايث له مع قولهم إنه لا يباينه إلا بالحقيقة والزمان جمع بين النقيضين، حيث جعلوا مباينته غير زائدة على مباينة المحل للحال فيه، وقالوا مع ذلك إنه غير مباين بغير هذه المباينة كما تقدم.

ولولا أن هذا الموضع ليس هو موضع الرد على من يقول: هو بذاته في كل مكان؛ إذ المؤسس وذووه لا يقولون هذا لكنا نوسع المقال فيه؛ وإنما المقصود هنا قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه، وإن كان القولان جميعا خارجين [ ص: 52 ] من مشكاة واحدة، وهي التعطيل لكونه فوق العرش؛ فإنهم لما جحدوا هذا الحق الذي فطر الله عليه عباده، وبعث به رسله، وأنزل به كتبه، واجتمع عليه المؤمنون به تفرقوا بعد ذلك، وفساد أحد القولين مستلزم لفساد أصل القول الآخر، وكل من القولين يناقض الآخر، وكل منهما لا يمكنه إفساد قول خصمه مع مقامه على قوله، فيلزم إما القول بباطل خصمه، وإما الرجوع إلى الحق، ومتى أبطل قول خصمه إبطالا محققا لزم إبطال قوله.

وأدلة إبطال قول الحلولية والاتحادية الذين يقولون [ ص: 53 ] إنه في كل مكان، ونحو ذلك كثيرة ليس هذا موضعها. وكل آية في القرآن تبين أن لله ما في السموات والأرض وما بينهما ونحو ذلك، فإنها تبطل هذا القول؛ فإن السموات والأرض وما بينهما وما فيهما إذا كان الجميع له وملكه ومخلوقه امتنع أن يكون شيء من ذلك ذاته، فإن المملوك ليس هو المالك، والمربوب ليس هو الرب، والمخلوق ليس هو الخالق؛ ولهذا كان حقيقة قول الاتحادية أن المخلوق هو الخالق والمصنوع هو الصانع لا يفرقون بينهما، حتى إنه يمتنع عندهم أنه يكون الله رب العالمين، كما يمتنع أن يكون رب نفسه، إذ ليس العالمون شيئا خارجا عن نفسه عندهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية