الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثامن: أن إخوانهم الجهمية الموافقين لهم على نفي كونه خارج العالم إذا قالوا لهم هو في كل مكان، وحال في كل مكان، لم يمكنهم نفي ذلك عنه بهذه الحجج كما تقدم، وأولئك إذا قالوا هو في كل مكان لم يمكنهم الاحتجاج على ذلك بما نفى كونه خارج العالم، وكان قول طائفة من الطائفتين مانعا من صحة قول الآخرين، وذلك يقتضي بطلان قول الطائفتين، وبطلانهما جميعا يوجب أن يكون خارج العالم.

وإيضاح ذلك: أن من يقول: هو في كل مكان. يجعله مقدرا محدودا قدر العالم، فجميع ما يحتج به على نفي كونه فوق العرش ينفي أن يكون بكل مكان بطريق الأولى والأحرى؛ لأن في هذا القول من وصفه بالصفات الممتنعة عليه وتجويز النقائص عليه وقبوله للزيادة والنقصان، وغير ذلك ما ليس في كونه خارج العالم، ومن قال إنه ليس داخل العالم ولا خارجه: إما أن يثبت مباينته للعالم بقدر زائد على المباينة بالحقيقة [ ص: 36 ] والزمان أو لا يثبته فإن أثبت المباينة الزائدة وجب أن يكون مباينا للمكان. وإن لم يثبتها لم يمكنه نفي حلوله في العالم مع مباينته بالحقيقة والزمان؛ إذ لا يكون له حجة على نفي حلوله في العالم كما تقدم وهذا باطل، وما استلزم الباطل فهو باطل. وإن قال هو داخل العالم وهو خارجه أيضا، كما يقوله بعض الناس، فإنه يرد عليه كل ما يورد على من قال هو خارج العالم، سواء قال هو جسم مع ذلك، أو ليس بجسم.

فقد تبين أن من قال: إن الله ليس خارج العالم يلزمه أن لا يكون الله مباينا للعالم منفصلا عنه وهذا باطل عند المنازع ونحوه، ومن التزمه وقال بالحلول كان ما يلزمه من الفساد والتناقص أكثر مما يلزمه خصمه، فيكون قوله من أبطل الباطل. وإبطال قول هؤلاء زيادة زدناها؛ إذ هو لم يتعرض لذلك هنا، وإنما أفرد له مسألة؛ ولهذا كان الأئمة كابن المبارك والإمام أحمد وإسحاق [ ص: 37 ] ابن إبراهيم وغيرهم يقولون / إن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه. ويقولون: بحد؛ لأن نفي المباينة لخلقه يستلزم حلوله فيهم واتحاده بهم.

[ ص: 38 ] وأما نفي المباينة ونفي المحايثة فإنه جمع بين النقيضين، من جنس كلام الملاحدة الذين يقولون ليس بعالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز؛ إذ كلام هؤلاء النفاة كله من واد واحد هو الإلحاد في أسماء الله وآياته بالقرمطة وتحريف الكلم عن مواضعه، وبالسفسطة في العقليات بدعوى عدم النقيضين أو [ ص: 39 ] دعوى اجتماعهما؛ لكن فيهم من يلحد في أمور يقر الآخر بإثباتها وإلا فينفي علوه على العرش فقول القائل: ليس داخل العالم ولا خارجه: هو مثل نفي علمه وقدرته بقول القائل: لا عالم ولا جاهل ولا عاجز. كل هذا من باب واحد. ومن لم يثبت أنه عالم قادر لزمه: أن يكون جاهلا عاجزا، كما أن من لم يثبت أنه فوق العالم لزمه أن يكون حالا في العالم، وكونه حالا في العالم هو من صفات النقص، كوصفه بعدم العلم والقدرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية