الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثامن عشر: أنا قدمنا غير مرة أن الله لا يضرب له المثل بغيره و[لا] يسوى بينه وبين غيره لا في نفي ولا في إثبات، بل هذا من الإشراك وجعل الأنداد والأكفاء له، وهذا من [ ص: 424 ] أعظم الأمور فسادا وتحريما في العقل والدين، وذلك أكبر الذنوب، بل ما ثبت لغيره من صفات الحمد والثناء فهو / أحق به وأولى، ولا يكون مماثلا لذلك الغير في ذلك النفي والتنزيه.

وقد ذكرنا أن مثل هذا القياس العقلي والمثل المضروب هو الذي يستعمل في باب الربوبية في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها كما ذكره الله تعالى في باب التنزيه عن الشركاء والأولاد وغير ذلك، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه؟ قال: نعم، قال: فاقضوا الله، فالله أحق بالقضاء". وهذا المعنى جاء في أحاديث متعددة صحيحة، فقبول الاستيفاء من الإنسان عن غيره لما [ ص: 425 ] كان من باب العدل والإحسان كان الله أحق بالعدل والإحسان من العباد، وكان الذي يقضي عن غيره حق المخلوق هو أحق بأن يقضي عنه حق الخالق من جهتين: من جهة أن حق الخالق أعظم، ومن جهة أنه أعدل وأرحم، ونظير ذلك في جانب النفي ما رواه الإمام أحمد في مسنده أنهم لما فاتتهم الصلاة سألوه هل يقضونها مرتين فقال: "أينهاكم [ربكم] عن الربا ويقبله منكم؟" يقول إنه نهى عن الربا لما فيه من الظلم وهو المعاوضة عن الشيء بما هو أكبر منه في الديون الثابتة في الذمة بعوض أو غيره وهو أحق بتنزيهه عن الظلم من عباده، وكذلك الأمثال والمقاييس التي تضرب في عمل العبد له مثل طاعته وعبادته وشكره وخوفه ورجائه والاستحياء منه وغير ذلك، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لبهز بن حكيم لما قال فإذا كان أحدنا خاليا قال: "فالله [ ص: 426 ] أحق [أن] يستحيى منه من الناس"، ومثل قوله في القرآن: والله ورسوله أحق أن يرضوه [التوبة: 62] فالأمثال تضرب تارة لما يوصف به من الصفات والأفعال، وهو الحق الموجود، وتارة لما يؤمر به الإنسان من الأعمال، وهو الحق المقصود، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما رأى امرأة من السبي لما رأت طفلا أخذته فأرضعته: "أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها" فيه قياس الأولى لكن من باب التصور، وقد يستعمل من باب [ ص: 427 ] التصديق بأن يقال: إذا كانت هذه لكونها كانت سببا في وجود هذا، فيها هذه الرحمة، فالرب الخالق لكل شيء ووجود كل شيء منه أحق بأن يكون رحيما بذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية