الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي " رحمه الله " فإن صار العصير خمرا ثم صار خلا من غير صنعة آدمي فهو رهن " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            إذا رهن عصيرا حلوا ثم صار العصير في يد المرتهن خمرا ثم انقلب الخمر في يده فصار خلا من غير صنعة ولا علاج فقد حل ذلك وعاد إلى الرهن بالعقد السابق .

                                                                                                                                            وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يعود إلى الرهن إلا بعقد مستأنف وهذا قول أبي علي بن خيران استدلالا بأن الرهن قد بطل باستحالته خمرا ، فلم يعد إلى الرهن باستحالته خلا لأن العقد إذا بطل لم يعد إلى الصحة فيما بعد اعتبارا بسائر العقود لا تصح بعد بطلانها ولأن رهن العصير بطل باستحالته خمرا كما يبطل رهن الشاة بالموت وتطهر الخمر باستحالتها خلا كما يطهر جلد الميتة بالدباغ فلما كان جلد الشاة المرهونة إذا دبغ بعد الموت لا يعود إلى الرهن إلا باستئناف عقد لبطلانه من قبل .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أن بطلان الرهن إنما كان لبطلان الملك فوجب أن يعود إلى الرهن بعوده إلى الملك لأن وجود الملك سبب لصحة الرهن كما أن عدم الملك سبب لبطلان الرهن ولأن من ملك شيئا ملكه بحقوقه كالورثة إذا ملكوا الرهن ملكوه بحقوقه مرهونا كذلك إذا ملك الراهن الخمر باستحالته خلا وجب أن يملكه بحقوقه مرهونا ولأن استحالة العصير خمرا توجب إتلافه بالإراقة كما أن ارتداد العبد المرهون يوجب إتلافه بالقتل .

                                                                                                                                            فلما كان زوال ما به يوجب إتلاف المرتد موجبا لاستقرار الرهن وهو أن يعود فلما وجب أن يكون زوال ما به وجب أن يكون إتلاف الخمر موجبا لاستقرار الرهن وهو أن يستحيل خلا ولأنه يعود إلى الملك إذا استحال خلا بسبب سابق لا بسبب حادث .

                                                                                                                                            ألا ترى لو أن رجلا مات وترك خمرا فاستحال بعد موته خلا لوجب أن تقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه ، فلو عاد إلى الملك بسبب حادث لاختص به الورثة ولم يلزمهم قضاء ديونه منه ولا إنفاذ وصاياه وإذا عاد إلى الملك بسبب سابق وجب أن يعود إلى الرهن لكونه رهنا في السابق .

                                                                                                                                            [ ص: 111 ] فأما الجواب عن قولهم إن الرهن إذا بطل لم يصح بسبب يحدث فيما بعد كالبيع وغيره فهو أن يقال : لما جاز عوده إلى الملك بعد بطلانه وإن خالف سائر الأملاك جاز عوده إلى الرهن بعد بطلانه وإن خالف سائر العقود على أن بطلان الرهن لا يكون منبرما باستحالته خمرا وإنما يكون مراعى ، فإن صار خلا بان أن الرهن لم يبطل ، وإن لم يصر خلا بان أنه قد كان بطل كما نقول في ارتداد الزوجة : إن النكاح مراعى ، فإن لم تسلم قبل أن تقضي العدة بان أن النكاح قد كان باطلا بالردة وإن أسلمت قبل أن تنقضي العدة بان أن النكاح لم يبطل بالردة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بجلد الشاة المرهونة إذا دبغ فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما وهو قول أبي إسحاق المروزي أن الجلد يعود إلى الرهن بالدباغة كما يعود الخمر إذا صار خلا بالاستحالة فعلى هذا يسقط السؤال .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يعود إلى الرهن بالدباغة وإن عاد العصير بالاستحالة .

                                                                                                                                            فعلى هذا الفرق بينهما : أن الجلد لما لم يعد إلى الملك إلا بفعل حادث لم يعد إلى الرهن إلا بعقد حادث ولما عاد الخمر إلى الملك إذا استحال خلا بغير فعل حادث عاد إلى الرهن بغير عقد حادث .

                                                                                                                                            فصل : إذا أخذ رجل خمرا لغيره بغصب أو غيره فاستحال خلا في يده كان ملكا للأول دون من استحال في يده لأن الخمر غير مقر في يده إذ لا يجوز أن تقر اليد على الخمر فصار استحالتها في يده كاستحالتها خلا في غير يده وإذا استحال خلا في غير يده كان المالك الأول أولى به كذلك وإن استحال في يده .

                                                                                                                                            فصل : إذا أخذ رجل جلد ميتة بغصب أو غيره فدبغه ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما وهو قول أبي إسحاق المروزي أن يكون ملكا لربه الأول دون الدابغ كالخمر إذا استحالت خلا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يكون ملكا للدابغ ولا يكون ملكا لربه الأول بخلاف الخمر لأنه لا يملك إلا بإحداث فعل ، فوجب أن يكون ملكا لمن وجد منه الفعل وليس كذلك استحالة الخمر لأنه ملك بغير إحداث فعل .

                                                                                                                                            وعلى هذين الوجهين يبنى عود للجلد المدبوغ إلى الرهن .

                                                                                                                                            [ ص: 112 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية