الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر توجيه القولين فإن قلنا بالأول منهما وأنهما آثار في حكم النماء الذي لا يتميز من السمن والكبر فللبائع أن يأخذ حنطته دقيقا مطحونا وثوبه مخيطا ومقصورا ولا شيء له في الطحن والخياطة إذا لم يخطه بخيوط له ، وللطحان والخياط أن يرجعا بأجرتهما على المشتري يضربان بها مع الغرماء ، وإذا قلنا بالقول الثاني أنها في حكم الأعيان المتميزة كالثمرة يملكها المشتري ولا يرجع بها البائع فلا يخلو حال الطحن والقصارة من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن تكون بفعل المشتري وعمله أو تكون بعمل أجير قد استأجره على عمله ، فإن كان المشتري هو الذي تولى عمل ذلك بنفسه فلا يخلو عين المال بعد حدوث العمل فيه من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون العمل لم يؤثر فيه زيادة ولا نقصانا ، مثل أن يشتري ثوبا يساوي عشرة ويقصره فيسوي بعد القصارة عشرة فالعمل قد صار مستهلكا ، وللبائع أن يأخذ ثوبه مقصورا ولا شيء عليه .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يكون العمل فيه قد نقص من قيمته مثل أن يشتري ثوبا يساوي عشرة ويقصره فيسوي بعد القصارة ثمانية فقد استهلك العمل ونقص الثوب فيقال للبائع هذا نقص لا يتميز فلك أن تأخذ الثوب بجميع الثمن أو تضرب مع الغرماء به ، والاعتبار بزيادته ونقصه بقيمته لا بثمنه ، لأن الثمن قد يزيد على القيمة وينقص .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يكون العمل قد زاد في قيمته مثل أن يشتري ثوبا يساوي عشرة ويقصره فيساوي بعد القصارة خمسة عشر فالزيادة للمشتري - وهي ثلثه - فيصير شريكا للبائع بها في الثوب فلا يلزم دفعه إلى واحد منهما ، أما البائع فلحق المشتري فيه ، وأما المشتري فلملك البائع له ، ويوضع على يد عدل حتى يباع فيعطي البائع ثلثي ثمنه قل الثمن أو كثر ، ويكون للمشتري ثلث الثمن يدفعه إلى غرمائه قل الثمن أو كثر ، فهذا حكم العمل إذا كان المشتري قد تولاه بنفسه ، وأما إذا كان المشتري قد استأجر أجيرا على عمله فلا يخلو أيضا حال الثوب من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون لم يؤثر فيه العمل زيادة ولا نقصانا وكان يساوي قبل القصارة عشرة ويساوي بعد القصارة تلك العشرة فيكون العمل مستهلكا ويرجع البائع بالثوب مقصورا ويضرب القصار بأجرته مع الغرماء لاستهلاك عمله ، فإنه قيل : فإذا كان العمل كالعين فهلا كان القصار والبائع شريكين في الثوب بقيمة العمل وقيمة الثوب ؟ قلنا : إنما يكون كالعين إذا كان لقيمته تأثير في الثوب فأما مع عدم تأثيره فيصير مستهلكا .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن تكون القصارة قد نقصت من قيمة الثوب ، فللبائع أن يرجع بالثوب مقصورا بجميع الثمن إن شاء أو يضرب مع الغرماء بثمنه ، وللقصار أن يضرب مع الغرماء بأجرته ، سواء أخذ البائع ثوبه أو تركه ؛ لأن عمل القصار صار مستهلكا .

                                                                                                                                            [ ص: 305 ] والحال الثالثة : أن تكون القصارة قد زادت في قيمة الثوب ، لأنه كان يساوي قبل القصارة عشرة فصار يساوي بعد القصارة خمسة عشر ، فالزيادة بها قدر الثلث فيكون المشتري شريكا للبائع في الثوب بثلث ثمنه ، ثم ينظر في أجرة القصار فلا تخلو من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            إما أن تكون بقدر الزيادة ، أو تكون أقل منها ، أو تكون أكثر منها ، فإن كانت أجرته بقدر الزيادة - خمسة - فله أن يرجع بالزيادة لأنها كالعين له فيصير القصار شريكا للبائع في الثوب بثلث ثمنه ، ولا يسلم إلى واحد منهما حتى يباع فيعطى صاحب الثوب ثلثي الثمن والقصار ثلث الثمن ، فإن قيل : فهلا كان للقصار أن يحبس الثوب بيده على قبض أجرته ؟ قلنا : ليس للقصار ذاك لا مع المفلس ولا مع غيره ، لأن حقه في العمل لا في الثوب ، وليس لصاحب الثوب أن يأخذه ، لأن العمل محتبس بأجرته ، ولكن يوضع على يد عدل يحبسه للقصار على أجرته وينوب عن مالك الثوب في حصول اليد على ثوبه ، وإن كانت أجرة القصار أقل من الزيادة فكانت أجرته درهمين ونصفا والزيادة خمسة صار في الثوب مقصورا ثلاثة شركاء ، فالبائع شريك فيه بثلثي ثمنه لأن قيمة ثوبه عشرة من جملة خمسة عشر ، والقصار شريك فيه بسدس ثمنه لأن قدر أجرته درهمان ونصف من خمسة عشر ، والمفلس شريك فيه بسدس ثمنه لأن الفاضل من قيمة الثوب مقصورا بعد قيمته وأجرته درهمان ونصف ، فإن قيل : فهلا كان للقصار أن يرجع بجميع الزيادة لأنها عين ماله ؟ قيل : هي وإن كانت في حكم العين له فقد أسقط حقه منها حين رضي بالأجرة المقدرة ، ثم لا يسلم الثوب إلى واحد من الثلاثة لحق الآخرين فيه ، ويكون موضوعا على يد عدل ليباع ويقسم ثمنه على ما وصفنا ، وتدفع حصة المفلس إلى الغرماء ، وإن كانت أجرة القصار أكثر من الزيادة فكانت أجرته عشرة والزيادة خمسة كان القصار شريكا للبائع في الثوب بقدر الزيادة وفي ذلك الثلث وللبائع الثلثان ، ثم يضرب القصار بباقي أجرته وهو خمسة مع الغرماء .

                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا كانت الزيادة هي عين ماله فهلا أخذها بجميع أجرته ؟ قيل : لأنه لما لم يستحقها زائدة لم يقتصر عليها ناقصة ، لأن أجرته مقدرة - وكذا الجواب في الطحان والخياط على هذا المثال - وهكذا إذا اشترى ساجة فعملها بابا أو ذهبا فصاغه حليا أو صفرا فضربه إناء أو غزلا فنسجه ثوبا فالقول في جميعه على ما مضى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية