الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " والقاتل فإن قتل بطل الرهن " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما العبد القاتل فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون قاتل خطأ يلزمه المال ، وسيأتي الكلام في جواز رهنه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون قاتل عمد يلزمه القود ، فقد اختلف قول الشافعي في قتل العمد ، ما الذي يوجب .

                                                                                                                                            [ ص: 85 ] فأحد القولين أنه يوجب القود وحده فأما الدية فإنما تجب باختيار الولي ، فعلى هذا يجوز رهنه كما يجوز رهن المرتد : لأن القاتل يتردد بين الاقتصاص منه والعفو عنه كالمرتد يتردد بين قتله بالردة ، وسلامته بالتوبة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن قتل العمد يوجب أحد أمرين : إما القود وإما الدية فعلى هذا في جواز رهنه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز رهنه كالقاتل الخطأ ، والقول الثاني : يجوز رهنه : لأنه قد يجوز العفو عنه فأما بيعه فقد مضى في كتاب البيوع .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت هذا فإن قلنا إن رهنه جائز فلا يخلو حال المرتهن من أحد أمرين : إما أن يكون عالما بجنايته أو غير عالم .

                                                                                                                                            فإن كان عالما بجنايته فلا خيار له في الحال : لأن الجناية عيب إذا علم بها لم يكن له خيار فيها ثم ينظر ما يكون من أمر المجني عليه في الثاني فلا يخلو من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يقتص منه .

                                                                                                                                            والحالة الثانية : أن يعفو عنه إلى مال .

                                                                                                                                            والحالة الثالثة : أن يعفو عنه إلى غير مال .

                                                                                                                                            فإن اقتص منه فلا يخلو حال القصاص من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون في طرف من أطرافه ، أو في نفسه ، فإن كان القصاص في طرف من أطرافه كيده أو رجله كان رهنا بحاله ولا خيار للمرتهن في البيع لعلمه بجنايته .

                                                                                                                                            وإن كان القصاص في نفسه فعلى قول أبي إسحاق له الخيار في فسخ البيع كالمستحق ، وعلى قول أبي علي لا خيار له في البيع لأنه عيب كان عالما به فهذا حكم القصاص .

                                                                                                                                            وإن عفا عنه إلى مال فلا يخلو حال سيده من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يفديه من ماله ، أو لا يفديه .

                                                                                                                                            فإن فداه من ماله ودفع أرش جنايته من عنده فهو رهن بحاله ، ولا خيار للمرتهن في البيع .

                                                                                                                                            وإن لم يفده السيد ولا غيره وبيع في الجناية فقد بطل الرهن .

                                                                                                                                            وعلى قول أبي إسحاق للمرتهن الخيار في فسخ البيع كالمستحق ، وعلى قول أبي علي لا خيار له لأنه عيب علم به فهذا حكم العفو إلى مال ، وإن عفا عنه إلى غير مال فقد [ ص: 86 ] سقط حكم الجناية واستقر رهنه ، ولا خيار في البيع بحال ، فهذا حكم الجناية إذا كان المرتهن عالما بها .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا كان المرتهن غير عالم بجنايته فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يعلم بها قبل استقرار حكمها ، فإذا علم بها كان بالخيار بين فسخ البيع وإمضائه ، فإن فسخ البيع كان له ، لأن الجناية عيب لم يعلم به ورده ممكن ، فإن أقام صار كالمرتهن عالما بجنايته ، فيكون على ما مضى من اعتبار أحوال المجني عليه في الأحوال الثلاثة من اقتصاصه أو عفوه على مال أو عفوه إلى غير مال . . ثم الحكم في كل واحد منها على ما مضى .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ألا يعلم المرتهن بجنايته إلا بعد استقرار حكمها فهذا على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يستقر حكمها على القصاص منه .

                                                                                                                                            والثاني : أن يستقر حكمها على العفو عنه إلى مال .

                                                                                                                                            والثالث : أن يستقر حكمها على العفو عنه إلى غير مال ، فإن استقر حكمها على الاقتصاص منه على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون القصاص في طرفه ، فلا يبطل رهنه بالقصاص لبقائه فيه لكن المرتهن بالخيار في فسخ البيع وإمضائه لإمكان رده وعدم العلم به .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون القصاص في نفسه ، فقد بطل الرهن ، وعلى قول أبي إسحاق له الخيار وإن فات رده كالمستحق وعلى قول أبي علي لا خيار له لفوات رده كالعيب .

                                                                                                                                            وإن استقر حكمها على العفو عنه إلى مال فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يفديه السيد ، فيكون حكمه كحكم العفو عنه إلى غير مال على ما نذكره .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ألا يفديه السيد ، ويباع في جنايته فقد بطل الرهن ، وعلى قول أبي إسحاق للمرتهن الخيار في فسخ البيع كالمستحق ، وعلى قول أبي علي لا خيار له في فسخ البيع لفوات رده كالمعيب .

                                                                                                                                            فإن استقر حكمها على العفو عنه إلى غير مال فقد سقط حكم الجناية ثم ينظر في العبد الجاني ، فإن لم يتب من جنايته وكان مصرا على حاله ، فهذا عيب وللمرتهن الخيار في [ ص: 87 ] فسخ البيع وإمضائه ، فإن تاب العبد من جنايته وانتهى من العود إلى مثلها ، فهل ذلك عيب في الحال أم لا ، على وجهين مضيا في البيوع .

                                                                                                                                            وما ذكرناه في توبة المرتد من الوجهين مبني على ما مضى من الوجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه عيب ، فعلى هذا له الخيار في فسخ البيع وإمضائه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه ليس بعيب في الحال ، فعلى هذا هل له الخيار في فسخ البيع أم لا ، على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : له الخيار اعتبارا بوجوبه في الابتداء .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا خيار له اعتبارا بسقوطه في الانتهاء .

                                                                                                                                            فصل : فأما رهن العبد إذا كان قاتلا في الحرابة ، فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يرهن قبل القدرة عليه ، فهذا في حكم الفاعل في غير الحرابة لجواز العفو عنه ، فيكون الحكم في رهنه على ما مضى .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يرهنه بعد القدرة عليه ، ففي جواز رهنه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لأن قتله في الحرابة لا يخرجه من ملك سيده كالمرتد .

                                                                                                                                            والثاني : أن رهنه لا يجوز : لأن قتله محتوم لا يجوز العفو عنه ، فكان أسوأ حالا من المرتد الذي قد يتوب فيعفى عنه .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا أخذ مالا في الحرابة ، أو سرق في غير الحرابة فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون المال موجودا معه ، فينزع من يده فرهن هذا جائز : لأنه لم يتعلق برقبته غرم ، ووجوب قطعه لا يمنع من رهنه .

                                                                                                                                            فإن كان المرتهن عالما به فلا خيار له ، وإن لم يكن عالما به فهو بالخيار في فسخ البيع وإمضائه ، سواء علم به قبل قطعه ، أو لم يعلم به إلا بعد قطعه لأنه قد يمكن رده بعد القطع .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون المال قد تلف من يده فالحكم في رهنه كالحكم في رهن الجاني خطأ على ما نذكره لتعلق الغرم برقبته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية