الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            2- إعمال كافة القدرات العقلية في قراءة (آيات الشريعتين):

            من يقرأ القـرآن سيجد أن حجر الزاوية في فهمه هو (التدبر)، مثل قوله تعـالى: ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (محمد:24)، أما حجر الزاوية في التعامل مع آيات الكون فهو (التفكر)، مثل قوله تعالى: ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) (آل عمران :190-191).

            ولـم تخـرج آيات الأنفس عن هـذا الإطـار، حيث طالب القرآن الإنسان بـ (التبصر) بها، مثل قوله تعالى: ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) (الذاريات:21). [ ص: 107 ]

            ومن المعلوم أن التدبر والتفكر والتبصر عمليات عقلية، يستدعي القيام الوافي بها تفعيل كافة القدرات العقلية من: تحليل وتركيب واستقراء واستنباط وخيال واستظهار.

            هذه هي الرؤية القرآنية، كما بدت لي، وهذا هو الفكر الذي ينتمي إليه ويدعو له جولن.

            ولأن القرآن هو الأصل، فقد لفت الأنظار إلى علاقته الوثيقة بآيات الأنفس والآفاق، ولاسيما في هذا الزمن الذي انتصبت فيه الكشوف العلمية كأدلة حسية على أن هذا القرآن كلام الله، مصداقا لقوله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت:53)، وأظهرت هذه الآيات مدى جـدة القرآن كأنه أنزل في هذا الزمن، حيث لا يزال شبابه يتجدد، وقد تحدث عن هذه الظاهرة مرارا، مبينا أسبابها [1] .

            ولم يمل من التأكيد على أن هذا العلم يخدم القرآن بكشوفاته [2] ، وعلى أن آيات القرآن ستجمع صفحات هذا الكون المبعثرة، وأن شمسه ستشرق من جديد في هذا الزمن، لتتبدد الغيوم السوداء، وسيحدث النهضة التي أحدثها أول مرة، لأنه ما زال بنفس الجدة والقدرة، فمن يقرأه بتدبر يعتقد أنه قد تنـزل على الناس الآن [3] . [ ص: 108 ]

            وما فتئ يقـول باعتزاز: "إن الزمن كلما شاخ وتقدم في العمر ونضج وتكامل، وقرب من أشراط السـاعة، ومن "آخر الزمان" كلما لمعت حقائق القرآن كالنجوم اللامعة في كبد السماء بالنسبة للمحققين والباحثين، وتبينت سلامته ومتانته وعمق تعاليمه، وأصبح أكثر إقناعا لقلوب الناس" [4] .

            ومع هذا السخاء القرآني إلا أن الأمر بحاجة إلى جهد المؤمن، فإن من يراجع القرآن والسنة "بصفوة الحس وأذن الاحتياج" لن يعود خاليا، ولن يموت أبدا من يلجأ إليهما، ولكن بتعمق وإخلاص [5] .

            وظل يحث المسلمين على ضرورة التفكر الواعي بمآسي بعدهم عن القرآن الكريم، ويحذرهم من العقاب الأخروي كذلك [6] ، ورغم إشادته دوما بإيجابيات مسلمي هذا العصر، ونقده اللطيف لهم، إلا أنه نقدهم بقوة في موضوع القرآن، ونعتهم بأنهم: "أصبحوا لا يفقهون شيئا من كتاب الله. فهم في واد والقرآن في واد آخر. وغدا ارتباطهم بالقرآن شكليا محضا" [7] .

            ولهذا حث على تدبر القرآن، والتفاعل معه بالقلب والعقل، حيث بين أن "الشرط الأساس للاستفادة من القرآن من هذه الجهة هو انفتاح القلوب [ ص: 109 ] نحوه. ولأجل ذلك على القارئ أن يسدد نظره ويلقي سمعه نحو القرآن. وأن يتوجه إلى القرآن الكريم بكيانه كله، إذ من المحال الاستفادة من القرآن على الوجه المطلوب باتباع سبيل آخر"، واستدل في هذا السياق بقوله تعالى: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) (البقرة: 2)، حيث أوضـح أنه مع كونه لا ريب فيه، إلا أنه "لا يستفيد منه عـلى الوجـه المطلوب إلا المتقـون. والمتقون هـم أفضـل الناس معرفـة بالشريعـة الفـطرية، فكما لا يكون المهمل تقيا، لا يستفيد من القرآن أيضا، حيث إن قلبه قد مات، والآية الكريمة تبين ذلك: ( ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم ) (محمد:20) [8] .

            ولأن الإلفة - وهي الاعتياد - تجعل الإنسان يمر أمام آيات الكون والأنفس لاهيا غافلا، فقد حذر من خطورة هذه الإلفة على الشريعة الفطرية، واعتبر من يقع فيها صاحب روح وأحاسيس ميتة، وصاحب بصيرة عمياء، مؤكدا أنه سيصير أسيرا لما اعتاد عليه، وسيلغي عقله، ومن ثم لن يستفيد شيئا من هذه الآيات، ولهذا دعا الإنسان للتحرر من الجمود والتحنط، بتجديد نفسه وروحه بعيدا عن مصيبة الإلفة، وأورد ست نقاط يحتاجها من سقط في هاوية الإلفة [9] . [ ص: 110 ]

            وحتى يحس المرء بالتوافق والانسجام بين الشريعة القرآنية والشريعة الفطرية، فلابد أن يكون أكثر حرية في الفكر والإرادة، ولهذا دعا المسلمين إلى أن يكونوا كذلك [10] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية