الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            1- الموازنة بين (قبضة الطين) و (نفخة الروح):

            مثلما اشتهر بموازنته بين العقل والقلب، فقد فعل مثل ذلك بين الجسم والروح، لإدراكه أن الله خلق الجسم من تراب الأرض ونفخ فيه من روحه، وبالتالي لكي يكون إنسانا ويعيش سعيدا في الدنيا ويفوز في الآخرة، لابد من أن يعطي لكل بعد زاده وحاجته، كما قال تعالى: ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) (البقرة: 197). ومن يقـرأ أسبـاب النـزول [1] يجد أنها نزلت في حجاج اليمن الذين كانوا يذهبون للحج بدون زاد مادي، فنـزلت الآية، ولذلك فـإن الأمر ( وتزودوا ) يقصد به الزاد المادي، أما التقوى فمن الواضح أنها زاد الروح!

            هذا هو التوازن الإسلامي، أما ممارسات المسلمين فقد ظلت نسبية، غير أن العلماء العاملين ظلوا يملكون موازين حساسة في مثل هذه الثنائيات، وعلى رأس هؤلاء فتح الله جولن كبير مجددي هذا الزمن.

            ولما كان العصـر ذا طابع مادي، فإن معظم المسلمين، فضلا عن غيرهم، قد اعتنوا بالجسم، وانشغلوا بإشباع غرائزه، وتلبية حاجاته، وأغفلوا تمـاما أشـواق الروح، من هنا جاء تصدي جولن لهذه القضية، وعنايته بها - كما أسلفنا - في عدد غير قليل من كتبه. [ ص: 171 ]

            لقد تحدث عن أهمية القلب والروح، وأن الشخص لا يكون إنسانا بدونهما، فبالروح يحيا، وبالروح يطوي الزمن، إذ يربط بين الحاضر والماضي والمستقبل، ويشعر بالطمأنينة، ويؤدي جميع واجباته نحو الخالق والمخلوق [2] .

            ومرة بعد مرة يكرر أن "الحياة الحقيقية هي الحياة التي تسير فيها الحياة الروحية والحياة الجسدية جنبا إلى جنب، مثل هذه الحياة تكون بمثابة البذرة التي تتحول إلى سنبلة في هذه الحياة ثم إلى سنابل متعددة وعناقيد في حياة الفرد" [3] .

            ويفلسف العبادة بأمر جليل ذي صلة بالعلاقة بين الروح والجسد، فـ"العبادة هي عملية إنماء الجوهر الملائكي الموجود في روح الإنسان لكي يكون أهلا للجنة، وعملية سيطرة على نزعاته الحيوانية" [4] .

            وباختصار شديد فإنه يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياة الروح [5] ، أما الصلاة فهي ضوء الروح ونور الطريق [6] ، وأما الدعاء فهو "غذاء الروح، ويجب إعطاء هذا الغذاء للروح دون انقطاع" [7] .

            ويربط كل فلاح ونجاح بإطلاق الروح وتحريره من نير الجسم، ولكن ليس على الطريقة المسيحية والبوذية والهندوسية، بل والتوازن الذي يقوم [ ص: 172 ] على إشباع رغبات الجسم من الحلال وبدون إسراف، وبالتالي يكون التوازن حاضرا.

            ويستشرف المستقبل الإسلامي المشرق من هذه الزاوية، إذا تعالى المسلمون "على النفس والجسمانية فأداموا حياتهم حسب أفق القلب والروح..." [8] .

            وشرط ابتعاد المؤمن عن سطحية الارتباط بالجسم وبمطالبه، هو أن يكون: "ثاقب النظر، متفتح البصيرة، يقظ الروح والأحاسيس، مرتبطا بالله بفكره وتدبره" [9] .

            ومن البديهيات أن الجسم آت من تراب الأرض، فيكون ذا منشأ دنيوي، بينما جاءت الروح من وراء عالم المادة، وسيكتب لها الخلود، فتكون ذات صلة بالآخرة، وهذا ينقلنا إلى العلاقة بين الدنيا والآخرة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية