الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثانيا: معادلة (رؤية النهوض) بين الأصالة والمعاصرة:

            لا يمكن أن تنجح أي رؤية في صناعة حضارة ما لم تجمع في بنيتها الفكرية والعملية بين الأصالة والمعاصرة.

            هكذا يستخلص من يقرأ فكر ابن نبي، لكن هذه المعادلة لا يمكن أن تتحقق إلا بالخلاص من المفردات التي يصنعها الاستعمار والتي تصنع القابلية له داخل العالم الإسلامي.

            والأفكار التي تصنع القابلية للاستعمار في أي مجتمع يسميها ابن نبي: "الأفكار الميتة"، أما الأفكار الاستعمارية فيسميها "الأفكار القاتلة"، وكلاهما أفـكار تقليـدية، لا يختـبرها العقل، ولا تستقيم أمام حاجات الواقـع المعاصـر، ولهذا حـذر من التقليد، مؤكدا أنه ينتج أفـكارا ميتة لأن أصحابـها قد ماتوا وصاروا في ذمة التاريخ، أما تقليد الغرب فينتج أفكارا مميتة [1] .

            وبالإضافة إلى المصـائب التي ستنـزل على رأس المجتمع الذي يستضيف الأفـكار الميتة والأفـكار المميتة، بسبب خصـائصهما، وبسبب تصارعهما وتآكلهما، فإن هذا المجتمع سيتعرض لانتقام الأفكار الأصيلة التي خذلها [2] . [ ص: 65 ]

            وتصبح الأفكار قاتلة عندما تستورد من محيط ثقافي آخر، وتقتطع من تجربة حضارية مغايرة، ولهذا كان شديد الدأب في التحذير منها، وكذا من الأفكار الميتة التي يشتد خطرها في صناعة الانفصام القائم اليوم في حياة المسلم المتدين، إذ أن الشعائر في واد والمعاملات في واد آخر [3] .

            ومثلما جعل وزر "القابلية للاستعمار" أكبر من وزر الاستعمار نفسه، فلم يتردد هنا عن اعتبار الأفكار الميتة - وهي كما يرى الأفكار الموروثة من عصر ما بعد الموحدين - أخطر على المسلمين من الفئة الأخرى (الأفكار القاتلة) أو المميتة [4] .

            ورأى أن التقليد - بشقيه التاريخي والتغريبي - لا يمكن أن يوجد الأصالة المنشودة أو الفعالية المطلوبة، ولا يمكن أيضا أن يبتكر أي جديد يحقق مصلحة للأمة أو يدرأ عنها مفسـدة، وأكد أنه لا يمكن مواجهة فعـالية المجتمعات الأخرى إلا بفعـالية ذاتية تكون ثمرة التزاوج المشروع بين الأصالة والمعاصرة، وهي المرتبطة بقراءة العقل المنضبط للواقع بصورة صحيحة وسوية [5] . [ ص: 66 ]

            وحلل بتوسع في أماكن متعـددة من كتاباته مخاطر التقليد والتغريب أو الأفكار الميتة والأفكار القاتلة، ولفت الأنظار إلى خطورة خفية تكمن في المجموعتين، وهي أن الأفكار الميتـة تتسـلح بسلاح (الأصالة) والسلفية، أما الأفكار القاتلة فتتدثر بدثار (المعاصرة) والحداثة [6] .

            وفي فصل تحت عنوان "بين الأفكار الميتة والأفكار القاتلة" دعا إلى أن "نمسك إذا ما اقتضت الظروف تنفسنا العقلي، وأن نتخذ أشد الاحتياطات ضد بعض أسباب العدوى الخطيرة المحتملة..." [7] .

            ولهذا فقد حذر مرارا وتكرارا من التقليد، سواء تذرع بالأصالة وتدثر بالسلفية، أو تحجج بالمعاصرة وتزمل بالحداثة.

            ومما قاله عن تقليد الغرب بعد دراسة متأنية وتأمل طويل وخبرة عميقة: "فإنه لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج مغفلا مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولا من الشرق أو الغرب، فإن في ذلك تضييعا للجهد ومضاعفة للداء. إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار" [8] .

            وقد بين من خلال دراسته لتجارب الإقلاع الحضاري في ألمانيا واليابان والصين أن النهوض كان ذاتيا ونابعا من حاجات وتجارب وأفكار داخلية، [ ص: 67 ] مع استفادة من خبرات الآخرين التي يتم استثمارها وإعادة ترتيبها وفق مناهج ثقافية خاصة.

            وأشار في مواضع عديدة إلى الطلاب الصينيين واليابانيين الذين يذهبون للدراسة في الغرب، وكيف يذهبون محصنين بثقافتهم الوطنية، "بينما غالبا ما يحدث للطالب الذي يذهب من بلادنا، أن يعود بشهادة ولكن بعد أن يترك روحه في مقاهي أو خمارات الحي اللاتيني أو في النوادي الوجودية بـ (سان جرمان)" [9] .

            ولأن الأصالة ضرورية لحفظ الهوية وتحقيق الرقي الحضاري كضرورة الماء لحياة الإنسـان، فإنه يدعو للاعتصـام بالأصول التي تكون هذه الأصالة: "لقد كان الإسلام الحصن الذي فشلت تحت أسواره جميع المحاولات التي استهـدفت سلب الشعب الجزائري شخصيتـه على مدى قرن من الزمان، كما كان الحافز الأيديولوجي الرئيسي الذي دعم جـهده البطولي خلال الثورة.

            ولكي نلخص هذه الكلمات لابد لنا أن نقول: إن علينا العودة إلى الأصول والمنابع التي منها نبع تاريخنا" [10] . والشعب الجزائري هنا مجرد نموذج لبقية الشعوب العربية والإسلامية بالطبع. [ ص: 68 ]

            وكما أنه يفرق بين التاريخ الإسـلامي والمنابـع التي استـقى منها هذا التاريخ، داعيا للعودة إلى المنابـع دون التاريخ، فإنه يفرق في رؤيته للغرب بين وجهه الاستعماري الذي يرفضه جملة وتفصيلا، ووجهه الحضاري الذي يدعو إلى الاقتباس منه كل نافع ومفيد ولكن دون تكديس كما يؤكد دائما.

            ونختم هذه الفـقرة بقـوله: "ويكفينا كي نقوم بعملنا على ما يرام، أن نسير طبقا لمبادئ لا غنى عنها، ولو أتى نصها الحرفي على لسان غيرنا، أي على لسان من هو على غير سفينتنا" [11] .

            وما فتئ - في هذا السياق - يؤكد على ضرورة الاقتباس المبصر للمفردات والأشياء الضرورية ودون تكديس، وهذا ما يؤكد بدوره على ضرورة تفعيل المنهج في كل شؤون صناعة الحياة والصعود في مراقي الحضارة، وهذا ما ستتناوله المعادلة الآتية.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية