الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            العروج الحضاري بين مالك بن نبي وفتح الله جولن

            الأستاذ الدكتور / فؤاد عبد الرحمن البنا

            سادسا: معادلة (طائرة النهوض) بين جناحي الفرد والمجتمع:

            وجـدت عـدد من النظريات الاجتمـاعية والسياسية في الغرب التي خلقت نوعا من التنازع بين الفرد والمجتمع، واجتهد أصحابها لمحاولة التوفيق - أو التلفيق أحيانا - وانتقلت هذه المعضلة إلى بعض المحسوبين على الفكر الإسلامي، حيث تشيع بعضهم لهذا الطرف وآخرون للطرف الآخر.

            غير أن الذين تعمقوا في قراءة مصادر الإسلام ووعوا التجربة الذهنية للمسلمين أيام الخلافة الراشدة وجدوا أن الإسلام حل هذه المعضلة على أفضل وجه، إذ أن الانسجام بين الطرفين كان أحد أهم عوامل فاعلية الإسلام الذي صنع (خير أمة أخرجت للناس).

            ومن يقرأ إنتاج مالك بن نبي يجده في طليعة العلماء والمفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين درسوا هذه القضية، وحولوها من أداة لـ(التآكل) في الواقع إلى أداة لـ(التكامل)، بحيث يبدو للناظر كأن نهضة الأمة طائرة تطير بجناحي الفرد والمجتمع.

            وإذا كان الفرد معروفا، فإن المجتمع كما يعرفه بن نبي "ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني يتم طبقا لنظام معين" [1] .

            ويشترط في مسمى المجتمع إذا أن يشترك أفراده في اتجاه واحد، من أجل القيام بوظيفة معينة ذات غاية واحدة، ومن ثم يتولى هذا المجتمع تركيب [ ص: 83 ] عوالم الأشخاص والأفكار والأشياء، بحيث يحقق هذا التركيب في اتجاهه وفي مداه "تغيير" وجوه الحياة، أو بمعنى أصح تطور هذا المجتمع [2] .

            ويبدأ تـكوين هذا المجتمـع من الفـرد نفسـه، بتحويلـه من فرد إلى شخص، "وذلك بتغيير صفاته البدائية التي تربطه بالنوع إلى نزعات اجتماعية تربطه بالمجتمع" [3] .

            وقد حلل بن نبي الأسباب المسؤولة عن ظاهرة الفردية - عند المسلمين عموما والعرب خصوصا - في ثنايا عدد من كتبه، وأبرز العوامل التي تصنع المجتمع، وذلك بصياغة الأفراد صياغة اجتماعية، بحيث يصبحوا (أشخاصا) مؤتلفين مع غيرهم، لا أفرادا مرتبطين بذواتهم أو بالقطيع فقط كالقبيلة مثلا!

            ومن أهم هذه العوامل والوسائل:

            1- المدرسة: التي تقوم بتربية الفرد، عبر تخليته من أسباب الفردية والأنانية ودفعه للتحلي بقيم الائتلاف مع المجتمع الذي ينتمي إليه أو يعيش بين ظهرانيه [4] .

            2- التربية الاجتماعية: وهي وسيلة فعالة - في الأساس - لتعليم الفرد كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يشترك مع بعضهم في تكوين مجموعات تغير [ ص: 84 ] شرائط الوجود نحو الأحسن دائما، وكيف يكون معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ [5] .

            3- علم النفس: وهو - بمساعدة الدين - يتولى التدخل في تكوين الطاقة النفسية الأساسية لدى الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية الواقعة في تصرف (أنا) الفرد، ثم في توجيه هذه الطاقة تبعا لمقتضيات النشاط الخاص بهذه (الأنا) داخل المجتمع، وتبعا للنشاط المشترك الذي يؤديه المجتمع في التاريخ [6] .

            4- الـدين: وقبل هـذه العـوامل وبعدها فإن الدين عامل حاسم في تكوين الشخصية الاجتماعية التي تصبح لبنة في جدار المجتمع أو خلية في جسمه الحي.

            وفي تاريخ أمة المسلمين - والعرب بالذات - لعب الدين دورا محوريا في صناعة المجتمع المسلم الذي صار مضرب المثل في المتانة والائتلاف بعد أن كان العرب مضرب المثل في التمزق والاختلاف.

            وإنها لشهادة من مفكر خبير، تبحر في العلوم، وعاش في الغرب، حيث قال: "إن روح الإسلام هي التي خلقت من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي، حتى كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه بعد أن يطلقها له، لكي يبني بذلك أسرة" [7] . [ ص: 85 ]

            ويفسر دور الدين في هذه المهمة الضخمة من ناحية علم النفس، بحيث يقدم تفسيرا علميا متماسكا بكل ما تحمله الكلمة من معنى [8] .

            ولما كانت المجتمعات الإسلامية مكونة من بشر، فإن ظروفا وعوامل عدة قد تظهر التنافس بين الفرد والمجتمع، وتظهر من ثم الضعف البشري، ولكن الإسلام بواقعيته الملازمة لمثاليته قد عرف كيف يعطي للفرد مساحة للتنفيس دون أن يخل بمصالح المجتمع، مع امتلاكه كافة التوجيهات الضرورية لتحويل الفرد إلى كائن اجتماعي، مما يحفظ التوازن، بحيث تبقى فاعلية الفرد دون أن يفقد المجتمع تماسكه ولحمته، وبجانب ذلك أوجد الإسلام حلولا للمشاكل التي قد تقع في سياق التناقض بين الفرد والمجتمع كما يفعل علم النفس الفردي والاجتماعي [9] .

            ومن ضمن المقترحات التي اقترحها ابن نبي كمفكر إسلامي لحفظ التوازن بين الفرد والمجتمع، فكرة توجيه العمل، بحيث لو طبقت كما اقترح فإنها تصبح عاملا عمليا جديدا في تحقيق التوازن المنشود [10] .

            ولأهمية التوازن بين الفرد والمجتمع في عملية النهوض الحضاري، وهو التوازن الإيجابي لا السلبي بالطبع، أي الذي يبقي فاعلية كل طرف، فقد بين [ ص: 86 ] الآثار الأخرى لهذا التوازن، مثل حديثه عن الفكرة التي تعمل في بناء المجتمع بقدر اندماج الفرد في المجتمع [11] .

            وحذر في المقابل من خطـورة الفردية على المجتمع، وحلل الظروف التي تخـلق الفرديـة أو تهـيئ المنـاخ المناسب لظهورها وانتعـاشها وتضخمها، ومن ذلك فساد العلاقات الاجتماعية فإنه يعيد الفردية إلى أي مجتمع مهما كان [12] .

            وأوضح أن المجتمع الذي يدور فيه عالم الأفكار حول محور الأشياء، فإنه يكون مهيئا لبروز الفردية [13] .

            وقد استجاب الإسلام لحاجات الفرد وحاجات المجتمع، عبر اندماج الفرد في المجتمع وتحوله إلى شخصية: "فإن اطراد اندماج الفرد يتدرج مستجيبا لطبيعته من ناحية، ومن ناحية أخرى مستجيبا لنسق من أصول وقواعد في الحياة يمكن تعريفه وهو في مرحلة متقدمة بمثابة عقد اجتماعي" [14] .

            وفي إطار العلاقة بين الفرد والمجتمع قام بدراسة مشكلة المرأة، فكل طرف منهما - الرجل والمرأة - هو شطر في هذا المجتمع، وعند التعارض بين مصلحة الفرد والمجتمع يقدم المجتمع [15] . [ ص: 87 ]

            ومع ذلك فقد اعترف بمشكلة المرأة، إلى حد أنه قال: "فإن مشكلة المرأة مشكلة إنسانية يتوقف على حلها تقدم المدنية" [16] بل وذهب إلى أن "تطور المجتمع يرتبط فعلا بتطور المرأة، والعكس صحيح..." [17] .

            وذكر بأن من فضل الإسلام على المرأة أنه أنقذها من الوأد، حيث كان يتم دفنها في التراب وهي حية، ولكن المسلمين اليوم عندما أساؤوا فهم دينهم دفنوها في الجهل بدلا عن التراب [18] .

            ومهما كانت مشاكل المرأة التي درس بعضها بعمق، بعيدا عن التسطيح والتقـليد، فقـد حـث على ضرورة دراسة مشكلتها ضمن واقع المجتمع المسلم الآن، وليس انطلاقا من التراث الإسلامي أو من واقع الحياة الغربية.

            وكعادته العملية والواقعية فقد تمنى على النساء عقد مؤتمر عام "يحددن فيه مهمة المرأة بالنسبة لصالح المجتمع، حتى لا تكون ضحية جهلها، وجهل الرجل بطبيعة دورها، فإن ذلك أجدى علينا من كلمات جوفاء ليس لها في منطق العلم مدلول" [19] . [ ص: 88 ]

            وهكذا، أبرز ابن نبي عبقرية الفكر الإسلامي وتوازنه المدهش في صناعة طائرة النهوض بجناحي الفرد والمجتمع، من خلال تحويل الفرد إلى شخص بحيث يصير وحدة مؤتلفة في البناء الاجتماعي.

            ولكن: ما الضامن ألا تظهر في هذا الشخص أعراض الشخصانية وتورم الذات؟.. هذا ما تناقشه المعـادلة الآتية، وهي درجـة أخرى من درجات سلم النهوض الحضاري، تحدد العلاقة المتوازنة بين الأفكار والأشخاص.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية