الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - عواقب تقدم الشخصانية وتأخر الأفكار:

            لقـد أبدع في توضيـح الخسائر والمضـار والمشـاكل التي ستنتج عن تراجع الأفكار وتقدم الشخصانية في أي مجتمع، ويمكن تلخيص أهمها على النحو الآتي:

            1- رفض المثل الأعلى أو استبداله بمثل آخر:

            فعندما يتجسد المثل الأعلى في شخص ما، فإن سائر أخطاء الشخص ينعكس ضررها على المجتمع الذي جسد في شخصه مثله الأعلى، "وسائر انحرافات ذلك الشخص تترصد كذلك في خسـائر، وتكون هذه الخسارة إما في رفضه للمثال الأعلى الذي سقط، وإما في ردة حقيقية يعتقد عبرها بإمكانية التعويض باعتناق مثل أعلى آخر" [1] . [ ص: 91 ]

            2- بروز آفة الاستبداد السياسي والفكري:

            "إن عبادة (الرجل السماوي) كعبادة (الشيء الوحيد) منتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي المعاصر، وتكون أحيانا سبب ما نشهده من حالات إفلاس سياسي مذهل" [2] . والاستبداد أشبه بمرض فقدان المناعة، حيث إن جسم المجتمع قابل لكل العلل والآفات، ولكل الغزاة والمعتدين.

            3- وضع الأشخاص في مواجهة الأفكار:

            يقول ابن نبي عن هذه المعضلة الناتجة عن تجسيد الأفكار وتضخم الأشخاص: "(فالرجل السماوي) أو (الرجل النجس): هما اللذان يستغلان بصفة دائمة، ويزجان حتى دون علمهما من أجل إجهاض بعض الأفكار.

            إن تناقض الفكرة والوثن قد ضمن بصفة عامة للاستعمار نجاحه الباهر في الإجهاض السياسي في بلادنا، مستخدما غالبا مثقفينا أنفسهم" [3] .

            إن اختلال التوازن الثقافي بين الأفكار والأشخاص بيئة خصبة لاستنبات المغالاة وولادة الطغيان.

            ويتأصل هذا الخلل حينما لا يكون عالم الأشخاص هو الذي يستقطب النشاطات الثقافية بل بوجه خاص فإن شخصا معينا هو الذي يستقطب [4] ، ومن ثم يصبح الشخص المستقطب مقدسا عند الناس، وهذا ينقلنا إلى الآفة الرابعة. [ ص: 92 ]

            4- تقديس الأشخاص:

            إن اختلال العلاقة بين الفكرة والشخص، يؤدي إلى بروز تطرف يثمر تحول الشخص إلى وثن. يقول بن نبي: "وبفضل تلك العلاقات المنجرفة نحو التطرف فإن الشعب الجزائري أقام قبب مرابطيه وأوليائه، وحافظ على عكوفه عليهم عبر قرون ما بعد الموحدين" [5] وهذا هو ديدن المجتمعات الإسلامية، مع وجود فوارق نسبية بالتأكيد، حيث أصبح الأحياء يستنجدون بالموتى!!

            5- الانكباب والمشي على الرؤوس:

            "لقد انقلب الجهاز الذي أخذ يسير وأرجله في الهواء ورأسه إلى أسفل، وهذا هو المظهر الجديد للمشكلة حينما أخلت الفكرة مكانها للوثن" [6] . فعنـدما يظهر الطاغية ويمـارس الناس أمامه الصغار، فإن هرم المجتمع ينقلب، ويصبح الوضيع رفيعا، واللص شريفا، والخائن أمينا، والأحمق حكيما، وهلم جرا!!

            6- غياب الموضوعية والإنصاف وبروز التعصب:

            ويمنع غياب الموضوعية من الاستفادة من الآخرين في إيجابياتهم، ويمكن العدو من العبث بمصائرنا . وقد ذكر ابن نبي أن الاستعمار أجاد اللعب بهذه [ ص: 93 ] النقطة، حيث قال: "فمثلا هو - أي الاستعمار - يعلم بأنه حينما يقول الشيطان: اثنان زائد اثنين يساوي أربعة، فإن المسلمين سيقولون: ليس هذا صحيحا لأن الشيطان قال ذلك.

            وعلى العكس من ذلك فإذا ما ارتفع صوت له سمة (الصدق) يقول: اثنان زائد اثنين يساوي ثلاثة، فإن المسلمين سيقولون هذا حق لأن هذا الرجل الصادق قد قال ذلك" [7] .

            وذكر ابن نبي أن مظاهرات خرجت في مصر سنة 1919م تصرخ في شوارع القاهرة: (نظام الحماية مع زغلول خير من الاستقلال مع عدلي باشا) وعلق قائلا: "وهذه البدع ستستمر ما دام عالمنا الثقافي محكوما بالأشياء والأشخاص" [8] . وفي مثل هذه الأجواء المحرومة من (هواء الموضوعية) تشيع (الأهواء)، وتتسيد العصبيات المذهبية والطائفية والعرقية والقبلية والحزبية!

            7- الثورات المضادة:

            الاستعمار يعرف علل المسـلمين ومجتمعات العـالم الثالث عامة، ومن ثـم فإنه يستـغل الثغرات ونقـاط الضعف، ومنها الشخصانية، حيث يستغل -مثلا- بعض الزعامات والقيادات لتشكيل ثورات مضادة [ ص: 94 ] ولخدمتـه - أي الاستعمـار- بدون وعـي منها [9] . وضرب مثلا لذلك من الثـورة الجزائرية، وقد حدث في كل الثورات وسـائر البلدان أشياء من هذا القبيل.

            8- غياب النقد الذاتي وتراكم الأخطاء والعلل المسببة للسقوط:

            عندما يقدس الأشخاص، فإن الشعوب تكون قد قبلت المهانة ومارست الاستخذاء، ومن ثم يصل القادة إلى حد الاستبداد والطغيان، وفي مثل هذه البيئة تكثر الأخطاء وتتكاثر الجراثيم والميكروبات، ولذلك فإن الاستعمار يشجع مثل هذه الحالات بطريقة غير مباشرة، حيث يقضي على خصمه من الداخل، وهو فقط يراقب ويوجه ويستثمر!

            يقول مالك بن نبي: "ومن هنا ندرك ما سيبذل الاستعمار من جهد لعزل الأفكار عن المجال السياسي حتى أن عمليات الرقابة والتصحيح والنقد الذاتي، التي من شأنها أن تكشف نواياه وتعطل مشروعاته تصبح غير ممكنة في البلاد المستعمرة.

            إن الاستعمار شيطان: ولكنه لو جهر بإعجابه (بمركب الأفراد) وشكره على الخدمات التي يقدمها له، عن شعور أو عن غير شعور، لكان دون شك شيطانا بليدا.." [10] . [ ص: 95 ]

            ولخطورة غياب النقد في بلادنا العربية، وما يترك هذا الغياب من آثار سيئة وتداعيات سلبية، فقد أكثر ابن نبي من الحديث عنه بألم شديد، رابطا إياه بداء الشخصانية وغياب أو ضعف الأفكار [11] .

            ولخطورة الشخصانية - أو التجسيد كما يسميها - فقد اهتم القرآن بهذا الموضوع، وزرعه في الوعي الإسلامي بقوله تعالى: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) (آل عمران :144).

            وعلق على هذه الآية فقال: "هذا التحذير ليس موجـها لتفادي خطأ أو انحراف مستحيل من الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنه من أجل الإشارة إلى خطر تجسيد الأفكار بحد ذاته" [12] . وقد تحدث عن مبررات الثوريين العرب لتكميم الأفواه ومنع النقد، ونقدها بقوة، حتى أنه قال ذات مرة: "فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة، وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر" [13] . ويبدو أن هذا المفكر الكبير من أكثر المفكرين العرب اهتماما بالنقد في دائرتي الفكر والفعل.

            والنقد الذاتي إذا وجد سيقود إلى التدقيق، ومن الأمور التي تحتاج إلى تدقيق العناية بالمضامين والأشكال، وهو محطتنا الأخيرة في هذا البحث. [ ص: 96 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية