الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            العروج الحضاري بين مالك بن نبي وفتح الله جولن

            الأستاذ الدكتور / فؤاد عبد الرحمن البنا

            أولا: معادلة (عوامل السقوط والنهوض) بين الداخل والخارج:

            من المعلوم أن كثيرين من علماء المسلمين يرجعون مشاكل الأمة ومعضلاتها الكبرى إلى عوامل خارجية بالأساس، وتوجد أقلية في الطرف الآخر تبرئ الاستعمار من كل مسؤولية، وتحمل العوامل الداخلية الكامنة في بلدان المسلمين كامل المسؤولية أو جلها.

            وبين هذين الطرفين هناك تيار وسطي استقرأ نصوص الشريعة، واستوعب التجارب التاريخية للمسلمين في السقوط والنهوض، وتأمل مليا الواقع المعاصر، ليخرج بمعادلة متوازنة تعطي للعوامل الداخلية والخارجية صورة من صور التضافر، وإن كانت العوامل الداخلية تلعب دورا أكبر من حيث قوة التأثير وبداية الانحراف والسقوط. [ ص: 60 ]

            ومن هؤلاء مالك بن نبي الذي مال إلى هذا الفهم، وتعمق في وقائعه دراسة وتحليلا وتمحيصا إلى أن بلور رؤيته في نظرية كاملة سماها: "القابلية للاستعمار"، حيث أكد أن أي أمة لا يمكن أن تستعمر ما لم تحمل في ذاتها بذور "القابلية للاستعمار".

            وقد أكد هذه الحقيقة في سائر كتبه وكتاباته، وفي مناسبات وسياقات متعددة، وبطرائق وأساليب مختلفة.

            ففي كتابه "شروط النهضة" [1] أوضح أن قيام نهضـة إسلامية معاصـرة بحاجة إلى شرطين رئيسين هما: مطابقة التاريخ للمبدأ القرآني: ( حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11)، وإمكانية تطبيق هذا المبدأ في هذا العصر. ولتحقيق الشرط الثاني فإن الأمر بحاجة إلى ثلاثة عناصر وهي: الإنسان والتراب والوقت.

            وعند النظر لهذين الشرطين وما يتفرع عنهما من عناصر، يتضح بجلاء أن العوامل الداخلية هي الحاسمة، مع حضور العوامل الخارجية التي تستغل الثغرات المحدثة والثغور المتروكة دون حراسة في جدر الأمة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ لتخريب أي شروط للتقدم وإحباط أي محاولة للنهوض الحضاري. [ ص: 61 ]

            ولأن جبهة الأفكار أخطر الجبهات في هذا السياق فقد أولاها اهتمامه الكبير في سائر كتبه، ولاسيما في كتابه الشهير: "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" [2] كأهم أساس لمشكلات الحضارة التي تعاني منها أمة المسلمين.

            وفي كتابه "ميلاد مجتمع" [3] أبرز دور عوامل التخلف ودور الاستعمار في تدمير "شبكة العلاقات الاجتماعية" [4] .

            ولخطورة هذين العاملين في الحؤول دون أي محاولة للنهوض الحضاري، فقد أكد أن نجاح أي ثورة في بناء وضع جديد والحفاظ على مكتسباتها مرهون بتصفيتها للاستعمار، ولن يكون ذلك فعالا إلا بتصفية الإنسان من "القابلية للاستعمار"، وإن تصفية الاستعمار في الإنسان مشروط بتصفيته في الأرض ويجب أن يتقدمها [5] .

            وذهب إلى أن الاستعمار أينما حل "كان يلوث الإنسان، حتى أصبحت تصفيته من رواسب الاستعمار أهم عمل ثوري في الثورة" [6] .

            وظل يلاحظ في أكثر كتاباته أن الشعوب التي لم يحمل إنسانها "القابلية للاستعمار"، مهما تعرضت لظروف صعبة بل ولهزائم عسكرية، فإنها تعاود الإقلاع الحضاري بنفس السرعة التي لفظت بها الاستعمار. [ ص: 62 ]

            ومن هذه الشعوب الحية الشعبان الياباني والألماني اللذان تعرضا لهزيمة ماحقة في الحرب العالمية الثانية، وتعرضت أراضيهما للاحتلال من قبل الحلفاء، لكنهما نهضا بقوة أثارت إعجاب العالم، لأن الاستثمار الحقيقي في الإنسان كان قد سبق تلك الظروف [7] . ولهذا اهتم بقضية بناء الإنسان، وتفعيل قضايا التربية، والتخطيط، والنقد الذاتي.

            وفي كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" [8] أولى عناية فائقة بإيضاح ظاهرة الأفكار التي يؤدي ضعفها أو موتها إلى تشكيل "القابلية للاستعمار"، وكيف يعمد الاستعمار إلى وأد كل فكرة صحيحة، وتشجيع الأفكار التي تبقي "القابلية للاستعمار" حاضرة في بنيان العالم الإسلامي.

            واهتم في هذا الكتاب بإبراز ترسانة وطرائق الاستعمار في تحطيم الأفكار، وأوضح كيف تندمج قطاعات عريضة من المسلمين في هذه المواجهة بدون وعي، حيث تتحول كثير من التيارات والشخصيات التقليدية إلى أسلحة تجتهد في الفتك بالأفكار المتجهة لمحاربة القابلية للاستعمار، بحسبانها أفكارا دخيلة أو عميلة، لأنها لم تتجه لمحاربة الاستعمار مباشرة، كما حدث لابن نبي نفسه، مما أشار إليه مرارا في هذا الكتاب، وفي كتب أخرى، أهمها: "مذكرات شاهد للقرن"، و"في مهب المعركة" [9] . [ ص: 63 ]

            ومن شدة ما لاقاه هذا المفكر من نوائب ومصاعب في حياته الفكرية والمهنية، ورغم شهرته بتحميل العوامل الداخلية التي يسميها "القابلية للاستعمار" المسؤولية الأكبر عن تخلف المسلمين، وإحباط كل أفكار ومحاولات النهوض، إلا أنه في هذا الكتاب "الصراع الفكري.." أظهر أصابع الاستعمار وكأنها وراء كل شيء وتستطيع عمل أي شيء، مما قد يراه بعض القراء تأثرا بنظرية المؤامرة.

            غير أننا إذا قرأنا ابن نبـي بصورة كاملة، وبعيدا عن ظروفه الخاصة، فإننا سنصل إلى ما ذكر هو نفسه أنه خلاصة خبرته في هذا الموضوع، وهو تمازج عوامل التخلف والصـراع الفـكري بين الاستعمار والقابلية له، لكن العناصر الاستعمارية لا تستطيع التأثير إذا لم تساعدها مكونات "القابلية للاستعمار" [10] .

            وبهـذا التحـليل العميـق والتوازن الدقيـق، يكون ابن نبـي قـد صنـع أول درجـة في سلـم الترقـي الحضـاري المنشـود، فالنهوض لا يمـكن أن يكون إلا ذاتيـا، ولا يمـكن أن يأتي إلا من الداخـل، وبهذا وحده يكون أي تغيير أصيلا وليس دخيلا، وهذا يقودنا إلى الدرجة الثانية في سلم النهوض. [ ص: 64 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية