الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثامنا: معادلة (جسم النهوض) بين المضامين والأشكال:

            من يقرأ كتب ابن نبي سيجده شديد العناية بالمضامين والمعاني والمقاصد، لكنه لم يفرط أبدا بالأشكال والمباني والوسائل، وهي التي سوف نبرز عنايته بها في هذه الفقرة، أما المضامين والمعاني فهي جوهر فكره كله، ولا تحتاج إلى إيضاح أو تدليل وتمثيل.

            وسنضرب المثل باللبس الذي أولاه عناية غير متوقعة منه في مشروع النهضة، حيث قال: "وليس اللباس من العوامل المادية التي تقر التوازن الأخلاقي في المجتمع فحسب، بل إن له روحه الخاصة به. وإذا كانوا يقولون: (القميص لا يصنع القسيس) فإني أرى على العـكس من ذلك، فإن القميص يسهم في تكوين القسيس إلى حد ما، لأن اللباس يضفي على صاحبه روحه، ومن المشـاهد أنه عندما يلبـس الشخص لباسا رياضيا، فإنه يشعر بأن روحا رياضية تسري في جسده ولو كان ضعيف البنية، وعندما يلبس ثياب العجـوز فـإن أثر ذلك يظهر في مشيته وفي نفسه، ولو كان شابا قويا.

            ولم يكن نزع الطربوش والاستعاضة عنه بالقبعة في تركيا الكمالية بالشيء البسيط، فقد كان أتاتورك يعلم أن الطربوش جزء من الفكر العتيق، فكر الباحثين عن التسلية وقتل الوقت، أولئك الذين سئموا الحياة، وباتوا يدخنون النرجيلة، ويتلهون بكركرتها عن كر دقائق الزمن، تسلية لأنفسهم بحياة تنابلة السلطان". [ ص: 97 ]

            "لقد كانت فكرة مصطفـى كمال التي دبرها قنبلـة، ولكن تأثيرها لم يتم لأن صاحبها لم يفكر في الشروط الأخرى لنهضته" [1] .

            ويؤكد مرة أخرى أنه لا شك "في أن مصطفى كمال حينما فرض القبعة لباسا وطنيا للشعب، إنما أراد بذلك تغيير نفس لا تغيير ملبس، إذ أن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد" [2] .

            وفي نهاية فصل خصصه لدراسة مشكلة الزي في كتابه (شروط النهضـة) أكـد بيقين جـازم: "أنه لمن الغباوة أن ننكر اليوم مشكلة الزي المناسـب لرجـال النهضـة ونسـائها، ولكننا نـكون أكثر غباوة إذا ما استسلمنا في ذلك إلى التقليد البحت، بلا التفات إلى مقتضيات أحوالنا من حيث دستور الجمال وضيقنا الاقتصادي والقيام ببعض الواجبات كالصلاة مثلا" [3] .

            إذا، هو لا يعتـبر اللبس أمرا شـكليا أو كماليا أو هامشيا، بل يضعه في صلب قضية النهوض الحضاري، حيث يؤثر على نفسية الإنسان بهذا القدر أو ذاك.

            وقد اهتم بصـورة عامة بالجمـال لما له من تأثير على جمال أفكار الإنسان وجمال مشاعره، وجمال سلوكياته وتصرفاته، وجعل من شروط [ ص: 98 ] النهضة ما سماه بـ (التوجيه الجمالي) ودرسه في فصل خاص ضمن كتابه (شروط النهضة) [4] .

            وفي هذا السياق يقـول: "فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسـان في نفسـه نزوعا إلى الإحسـان في العمل، وتوخيا للكريم من العادات.

            ولا شك أن للجمال أهمية اجتماعية هامة، إذا ما عددناه المنبع الذي تنبع منه الأفكار، وتصدر عنه بواسطة تلك الأفكار أعمال الفرد في المجتمع.

            والواقع أن أزهد الأعمال - في نظرنا - له صلة كبرى بالجمال، فالشيء الوحيد قد يختلف تأثيره في المجتمع باختلاف صورته التي تنطق بالجمال، أو تنضح بالقبح، ونحن نرى أثر تلك الصورة في تفكير الإنسان وفي عمله وفي السياسة التي يرسمها لنفسه، بل حتى في الحقيبة التي يحمل فيها الإنسان ملابس سفره" [5] .

            والذين لا يهتمون بالمظاهر والأشكال قد يتهمون ابن نبي بالمبالغة عندما يجعل للجمال كل هذا التأثير في صناعة الحضارة، من مثل قوله: "والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة، فينبغي أن نلاحظه في نفوسنا، وأن [ ص: 99 ] نتمثل في شوارعنا وبيوتنا ومقاهينا مسحة الجمال نفسها، التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي.

            يجب أن يثيرنا أقل نشاز في الأصوات والروائح والألوان، كما يثيرنا منظر مسرحي سيء الأداء.

            إن الجمال هو وجه الوطن في العالم، فلنحفظ وجهنا لكي نحفظ كرامتنا ونفرض احترامنا على جيراننا الذين ندين لهم بالاحترام نفسه" [6] .

            وتتضح أهمية الجمال البالغة في رؤية ابن نبي وتأثيرها الشديد على عملية النهوض الحضاري ليس من تقريراته فحسب في هذا المجال، بل من لغته التي أصبحت - كما في النص الأخير - أقرب إلى الوعظ والحث والدفع، كأنه يخشى أن لا يصدقه قومه، كما تعودوا على اعتبار هذه الأشياء أمورا ثانوية، ولذلك استخدم أسلوبا وعظيا غريبا على أسلوبه الفكري المميز، والقائم على التقرير والوصف والتحليل.

            وتتأكد عنايتـه بـ (الأشكال) كمـكملات ضرورية لـ(المضامين) من عنايته بالفنـون الجميـلة، حيث خصـص لها فصـلا في كتابه (شروط النهضة) [7] . [ ص: 100 ]

            وفي نهاية المبحث نشير إلى أن ابن نبي في تنظيمه للعلاقة بين تلك الثنائيات، ظل دائب التأكيد على ضرورة المزج المتناغم بين هذه العناصر، محذرا من مجرد التكديس، فإن التكديس لا يؤدي إلى البناء الحضاري المطلوب. ويستدعي البناء حضور الفكر والخطط والموازنات الدقيقة بين الأشياء على شكل معادلات كيميائية.

            وضرب المثل بالماء الذي يتكون من تفاعل عنصري الهيدروجين والأوكسجـين [8] بمقـادير مضبـوطة متوازنة، فإن الإنسان لو كدس ملايين الأطنان من هذين العنصرين ثم بقي ينتظر أن يتكون الماء فإنه لن يتكون وحده.

            وبنفس المنطق دعا إلى تحليل المنتجات الحضارية والبحث عن مكوناتها، عندها سيخرج المرء بحقيقة عامة هي أشبه بمعادلة كيميائية:

            - حضارة = رجل + تراب + وقت [9] .

            ومن هنا فإن التخطيط لحضارة لا يستدعي التفكير في منتجاتها وتكديسها، وإنما في أشياء ثلاثة: الإنسان والتراب والوقت، بحيث تحل مشاكلها حلا علميا، من خلال البناء المتكامل للإنسان، والعناية بالتراب وبالزمن [10] . [ ص: 101 ]

            وهكذا، فإن المعادلة الرئيسة للإقلاع الحضاري تتكون عنده من التفاعل الخلاق بين هذه العناصر الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت: "مجموع منتجات حضارية = مجموع إنسان + مجموع تراب + مجموع وقت" [11] .

            وفي ذات السياق يقول: "وبالتالي يمكن أن أكتب النتيجة التحليلية في صورتها النهائية:

            - حضارة = إنسان + تراب + وقت" [12] .

            وبعقل المهندس وروح المفكر، كتب مالك بن نبي هذه المعادلات المتوازنة لتحقيق الإقلاع الحضاري لهذه الأمة التي طال انحطاطها، وخسرت وخسر معها العالم الكثير بسبب هذا الانحطاط.

            وهكذا يتكامل المبنى مع المعنى، وتتمازج الأفكار مع الأشياء، وتتحد المضـامين مع الأشـكال، وتتضافر الجواهر والمظاهر لتكوين رافعة أخرى من الروافع المسـؤولة عن صنـاعة النهضة عند مالك بن نبي. فماذا عن فتح الله جولن؟

            هذا ما سنعرفه في المبحث الآتي. [ ص: 102 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية