الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            2- الموازنة بين (مباني الدنيا) و (معاني الآخرة):

            جعل الإسلام الدنيا بذرة والآخرة ثمرة، وجعل الدنيا مقدمة والآخرة نتيجة، وجعل الدنيا وسيلة والآخرة غاية، لكن بعض تيارات المسلمين أحدثت خللا بين طرفي هذه العلاقة، فصارت الدنيا والآخرة عندهم ضرتين، ومن ثم ظهر من انحاز إلى الدنيا مخربا لآخرته، وظهر كرد فعل عليه من تشيع للآخرة ضاربا عرض الحائط بالدنيا! [ ص: 173 ]

            لكن العلماء العظام والمفكرين الكبار امتلكوا دوما القدرة على الموازنة بين الـدارين، وعلى رأس هـؤلاء فتـح الله جولن الذي امتلك ميزانا دقيقا يشـطر الشعرة إلى أربعين شطرا ويزن كل شطر بمفرده، فأنى لميزانه أن يختل؟!

            وما دمنا انتهينا في الفقرة السابقة إلى الحديث عن الروح، فإن جولن يرى -بهذا الصدد - أن السعادة في الآخرة تتم في الدنيا من خلال الروح، وذلك في مواسم الشعائر ومحطات التزود وأفراح الروح [1] . وذهب إلى أن أداء جميع الشعب الإيمانية، سواء كانت دنيوية أو أخروية، إنما يتم بالتوازن بين الروح والجسم [2] .

            واعتقد جازما أن القرآنيين الذين يتدبرون القرآن تكمل المادة في فكرهم وفي حياتهم ما وراء المادة "ويكون المعنى هو المحتوى الحقيقي للمادة وقيمتها، ويظهر كل شيء بقيمته المتخفية وراء الأستار" [3] .

            وحث في مواضع كثيرة [4] على الاهتمام بالدنيا، على أن تظل وسيلة لا غاية، بأن تبقى في اليد ولا تتسلل إلى القلب، إضافة إلى بقية الضوابط [ ص: 174 ] التي أوجدها الشرع واستنبطها العلماء في هذا السياق. وهو ينطلق بهذا التنظيم من قوله تعالى: ( الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) (القصص:77).

            ومما قاله بهذا الصدد: "نحن لا نستطيع ترك الدنيا لأننا لا نحصل على الآخرة إلا بوساطة الدنيا" [5] ، ولهذا حث على الجمع بين سلطة الدنيا وسلطنة الآخرة [6] .

            وحذر دوما من الإفراط أو التفريط، فـ"المؤمن إنسان متوازن، لذا يجب أن يحافظ على نفسه من الضربات المهلكة للإفراط أو للتفريط في هذا الموضوع، والمعيار الواجب اتباعه هنا هو إعطاء أهمية للدنيا بنسبة البقاء فيها، وإعطاء أهمية للآخرة بنسبة البقاء فيها أيضا..." [7] .

            وفي سيـاق التأصيل لهذا الجمع المتوازن، أكد جولن على أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت جسرا لسعادة الدنيا والآخرة [8] ، وأن الصيام - كشعيرة تعبدية - إنما هو تخليص للإنسان من أدران الدنيا وإعداد له للولوج إلى سلطنة الآخرة [9] ، أما المسجد فهو "يؤسس لنا جسورا بين الدنيا والآخرة، [ ص: 175 ] ويربط بين هذين العالمين، ويفتح أمامنا منافذ من هنا إلى هناك، ويثير فينا خيالات مبهمة" [10] . وإذا كانت المساجد تربط بين السماوات والأرض، كما ذهب في موضع آخر، فإن الأمر لم يخرج عن النتيجة السابقة، لأن الأرض مخزن (الدنيا)، والسماء مثوى ورمز (الآخرة).

            "وأخيرا، يؤكد جولن على تصوره للحياة الإنسانية في إطار الإسلام، الذي يطرح رؤية حياتية تجمع بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة. ولا تكتسب الحياة الدنيا كمالها ومعناها وأصالتها إلا عندما نعيش فيها ونحن نؤمن بوجود الرب - أو الله - باعتباره المصدر والأساس للحقيقة" [11] .

            ويمكن القول في نهاية هذه الفقرة: إن العبادات ذات البعد الأخروي البحت عبادات (لازمة) للإنسان نحو ربه، أما العبادات ذات البعد الدنيوي فهي عبادات (متعدية)، وهذا ما ينقلنا إلى استعراض ثنائية حقوق الله وحقوق الإنسان، وضرورة الموازنة بينهما.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية