الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            رابعا: الموقف من التصوف:

            اتسم ابن نبي برؤية سلبية نحو التصوف، ففي تحليله العميق لكثير من أبعاد التخلف في حياة المسلمين صادف دورا سلبيا للحركات والطرق والأفكار الصوفية، مثل أبعاد: الفردية وتضخم الشخصانية، ضعف السببية، وهن الفعالية، ضعف قيمة النقد الذاتي، فقدان الدوافع لعمارة الأرض.

            وعلى سبيل المثال فإنه في قراءته للتاريخ الإسلامي وجد أن المجتمع الإسلامي واجه أزمة فقدان المسوغات الضرورية لصناعة الحضارة من زمن مبكر، ولاحظ دورا للحركة الصوفية في هذا الأمر، فهي كما قال: "تمثل [ ص: 223 ] إلى حد ما الدوافع السلبية، التي تدفع إلى انتحار الفرد الذي فقد مسوغات حياته، فالصوفي يخرج أيضا عن النظام الطبيعي للحياة، ويتخلص من مسؤولياتها عن طريق الأوراد والسبحة، كما يتخلص المنتحر العادي من مسؤولياته بوسيلة الخنجر، فالصوفي ينتحر بوسائل الروح" [1] .

            أمـا جـولن فإن القـارئ لكتاباته يجـد ثناء عـاطرا على الصوفية وكثيرا ما يستدعي بعض رمـوزها، ويستـدل ببعض أقوالهم ولاسيما جلال الدين الرومي الذي أكثر الاغتراف منه، والثناء عليه، والاستدلال بمواقفه ومقولاته.

            ومن تعريفات جولن للتصوف [2] يمكن الاستنتاج أنه يتكلم عما يجب أن يكون في التصوف، بينما يتكلم مالك عما هو كائن، حيث كانت بعض الطرق تنشر البدع في الجزائر، بل ونجح الاستعمار الفرنسي في تطـويع بعض مشايخها لفكره ومواقفه وحاجاته، سواء كانوا واعين أو غير واعين.

            ويمكن القول: إن التصوف العملي كأس، نصفه مملوء بالالتزام الصارم بتعاليم الشريعة، والنصف الآخر خال من هذا الالتزام، ومن ثم يكون مالك قد نظر إلى النصف الفارغ من الكأس، بينما نظر جولن إلى النصف الممتلئ.

            ولا شك أن الظروف لها دخل كبير في هذا التباين، ففي حالة مالك كانت الجزائر تنتفض ضد الاحتلال لتحقيق الاستقلال والنهوض الحضاري، وكانت الأفكار الصوفية السلبية تشدها إلى الأسفل، فتصدى لها. أما في [ ص: 224 ] تركيا فإن الروح كانت تتعرض لعواصف هوجاء تريد إطفاء وهجها بل وطمس كل جميل في التاريخ الإسلامي، فركز جولن على استنقاذ هذا الوهج، وإبراز الصورة الوضيئة في التأريخ الإسلامي.

            واتسمت شخصية جولن إلى جانب ذلك بحسن الظن بالآخرين والبحث عن أعذار لهم إن أخطأوا، مع التركيز دائما على الإيجابيات، ولذلك نصادفه يثني حتى على بعض رموز التصوف الذين تعرضوا للهجوم من أكثر التيارات الإسلامية، كابن عربي [3] والحسين بن منصور الحلاج [4] . ولقد أثنى على أدعية وأذكار الصوفية [5] وأجاد توظيف بعض مقولاتهم لصالح النهوض الحضاري المنشود [6] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية