الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثالثا: معادلة (وقود النهضة) بين المنهج والمفردات:

            عملية النهضة معقدة وبحاجة إلى كثير من المفردات: (الأفكار والقدرات والأشياء)، بعضها ستكون ابنة بيئتها، وبعضها الثاني يمكن اقتباسها من الخـارج، أما البعض الآخـر فسيتم استـدعاؤها من التاريخ إذا ثبتت جدواها في هذا العصر، ولابد من ابتكار مفردات أخرى، بحسب المتغيرات والتطورات والواردات. [ ص: 69 ]

            هذه المفردات الضخمة إن لم يوجد منهج يتحكم بها ويضبطها ستتحول إلى أكوام، تسبب فوضى عارمة وتشيع قيم التآكل والصراع داخل المجتمع المسلم.

            وهذا ما حث عليه مالك بن نبي في كافة كتبه، حيث أكد على ضـرورة التوازن بين الأشيـاء والمنهـج، وعلى ضـرورة التوازي بين الكم والكيف.

            ومن ذلك أنه في كتابه "شروط النهضة" [1] خصص فصلا تحت عنوان: "من التكديس إلى البناء"، حذر فيه من تكديس المفردات التي تشكل وقودا للنهضة من دون تدخل المنهج الذي يرسم الخطط و (الاستراتيجيات) لتوظيف كافة الطاقات ووضع سائر المفردات في أماكنها المناسبة حتى تتم عملية البناء الحضاري.

            لكنه لم يمل من التحذير من خطورة الترقيع ومعالجة الأعراض، ومن خطورة البحث عن دواء لمشاكل العالم الإسلامي في صيدلية الغرب، مؤكدا من الناحية الكيفية والناحية الكمية استحالة التقليد الحضاري، وتوصل في نهاية الفصل إلى صوغ معادلة النهوض الحضاري كالتالي:

            - ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت.

            - أو حضارة = إنسان + تراب + وقت [2] . [ ص: 70 ]

            ويعبر عن المنهج ووظائفه بمصطلحات عدة حسب السياق، ففي "ميلاد مجتمع" حث على ضرورة الجمع بين الأفكار والأشياء والأشخاص لبناء مجتمع النهوض الحضاري، لكن فاعلية هذا المجتمع لن تصل إلى مداها الأقصى إلا بمنهج ينظم عملها، وهو يشير إلى وظيفته من خلال الحديث عن شبكة العلاقات الاجتماعية، حيث يقول: "ففاعلية الأفكار تخضع إذن لشبكة العلاقات، أي أننا لا يمكن أن نتصور عملا متجانسا من الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية. وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق، كان العمل فعالا مؤثرا" [3] .

            وحث في ذات السيـاق على ضرورة التوازن بين الكم والكيف في سائر ميادين الحياة، وقد أشـار إلى خطورة اختلال التوازن في بعض الإدارات الثورية بين الكم والكيف، مؤكدا أن للشيئية نتائج خطيرة على الصعيد الاجتماعي، وهو التطور القصوري أي استلاب سلطة المجتمع وتبديد وسائله [4] .

            وفي حديثه عن الشبكة الاجتماعية أكد على أن تطورها إنما يتم بالتعادل بين الكيف والكم [5] . [ ص: 71 ]

            أما زيادة الأفراد القادرين على العمل في ميادين الإنتاج مع زيادة متوسط ساعات العمل فإنه يصبح عامل إقلاع حضاري، ولذلك فإن الدول الغربية تشجع زيادة النسل في بلدانها، وتشجع الأكفياء من العالم الثالث على الهجرة إليها [6] .

            ويبدو من تحليل ابن نبي لقضايا المنهـج والأشياء، أنه يعد المنهج ثابتا في كل الظروف، بينمـا الأشياء وسـائر المفردات متغيرة، يمكن أن تزيد أو تنقص، تتقدم أو تتأخر، تحذف أو تضاف.

            وفي كل الموضوعات والقضايا التي تعالج مشاكل الحضارة وتوصل إلى النهوض الحضاري كان من الواضح أنه يمتلك باقتدار خارطة الثوابت والمتغيرات في الفكر الإسلامي وعلم الاجتماع [7] . وكان ينطلق في تحليلاته من استيعاب كامل لهذه الخارطة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية