الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            2- أهمية ارتياد الفاعلية من أبوابها المشروعة كافة:

            يعرف من تعامل مع "أبناء الخدمة" في كافة المجالات أنهم أصحاب فاعليات لافتة للنظر، ومن يعرف كتب جولن ويفهم منهجه التربوي، يدرك الأسباب والأسرار في آن واحد، إنه إكسير الفاعلية، وهو المزج الدقيق بين القلب والعقل، بين الإخلاص والعلم.

            وبالمناسبة قام المفكر المغربي د. سمير بودينار بعمل دراسة قيمة عن التربية في المدارس التركية التابعة للخدمة، ولاحظ نجاحها الباهر بل والمنقطع النظير، وفي تفسير هذا النجاح ذكر أن له أسبابا لا أسرارا [1] .

            ويبدو لي أن لهذا النجاح أسبابا وأسرارا، بسبب هذا الدمج الكبير بين العقل والقلب، فالعقل صانع الأسباب، والقلب مصنع الأسرار، ومما يؤكد ذلك أن مخرجات مؤسسات "الخدمة" أكبر من مدخلاتها مقارنة بمؤسسات مماثلة لأناس لم يتلقوا التربية التي تلقاها "أبناء الخدمة".

            وعلى سبيل المثال فإن أكثر الذين يديرون المؤسسات الإعلامية للخدمة هم من خريجي قسم الإلهيات في الجامعات التركية، ولم يدرسوا في كليات الإعلام بما فيها من علوم ومفردات تخصصية دقيقة.

            وفي مقـابلة لنا مع أحد المسؤولين في قنوات (درب التبانة) الفضائية - التابعة للخـدمة - ذكر أن مثل هذه الملاحظة أثيرت من قبل خبراء [ ص: 146 ] غربيين كبار جيء بهم لتقييم أداء هذه القنوات، فكانت غرابتهم كبيرة من البون بين المدخـلات والمخرجات، إذ رأوا مخرجات ممتازة بمدخلات غير ممتازة، لو كانت في مؤسسات أخرى لأثمرت نتائج عادية، لأن المخرجات من جنس المدخلات، غير أن استفراغ الوسع في مجال الأسباب، مع الإخلاص وروح التعبد لله، يخلق أسرارا تفعل الأسباب، فتغزر الثمار وتعظم النتائج!

            وربما كان هذا ما يعنيه جولن عندما يتحدث عن تعظيم الإخلاص للحقير وتكثيره للقليل، من مثل قوله: "النية الحسنة أكسير يحول العدم وجودا، والنية السيئة تحول الوجود عدما وتمسح تأثيره" [2] .

            ومن أهم الأبواب للولوج نحو عالم الفعالية وصناعة الحياة:

            أ - التصور الدقيق والنية الخالصة:

            يقول جولن: "يبدأ كل شيء كتصور في الذهن، ثم يتم الانتقال إلى التخطيط ثم إلى تحقيقه بعزم وإصرار. فدون وجود هذا التصور الأولي والنية لا يمكن البدء بأي عمل، كما أن أي نية لا يعقبها عزم وقرار لا يؤدي إلى أي نتيجة وتبقى عقيمة. هناك أشياء كثيرة تشير إلى القوة التي تملكها النية. غـير أن العديدين ممـن لا يملـكون المقـدار الكافي من الشعـور بالحياة لا يعرفونها" [3] . [ ص: 147 ]

            ب - إتقان التخصصات ووضع الكفايات في أماكنها المناسبة:

            لقد أكثر من الحديث عن أهمية التخصصات، وصقل المواهب بالعلوم والمعارف والخبرات، وعن وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وإلهاب شعور الرغبة بالاستزادة من العلم بإطفاء جمرة الشعور بالرضا والإحساس بالوصول إلى العلم [4] .

            ومع الاهتمام بتحصيل المفردات التي تجعل الإنسان متقنا لتخصص ما، فإنه يطـلب من الجميـع الإحـاطة العلمية الـكلية والإدراك المقاصدي، إذ أن الأمـة اليـوم أحـوج ما تـكون إلى النظر الشمـولي، والتقييم العمومي الموضوعي [5] .

            وفي حثه على التعلم والتخصص، فإنه ما برح يؤكد على الجانب العملي والرسالة الوظيفية لهذا العلم، مهما كان التخصص، إذ لابد للعالم أن يستخدم علمه "كمنشور في تحليل الأحداث والأشياء، ويوجه علمه لإضاءة وإنارة المناطق المظلمة، والطيران بعلمه ومعرفته للوصول إلى الحقائق الموجودة فيما وراء الطبيعة، فقدره وقيمته بقيمة علو طيرانه" [6] .

            فهو هنا يجعل قيمة الإنسان ومكانته بمقدار فاعليته التي يسميها الطيران، مع دمجه بين القلب والعقل، وبين العلم والعمل، وبين الدنيا والآخرة. [ ص: 148 ]

            ج- التخطيط الدقيق:

            يحض جولن دوما على التخطيط في إنجاح وتفعيل كافة المشاريع والمؤسسات سواء كانت فردية أو جماعية، فكيف بالمشروع الحضاري لهذه الأمة التي تجاوز أبناؤها المليار ونصف المليار إنسان؟!

            في التخطيط اللصيق بالنقد، يحث على مراجعة الأمس ونقده، ومعرفة اليوم، حتى يمكن صناعة الغد [7] . ولابد من وضوح الهدف، وتجديد البرامج، ورسم الخطط في ضوئه للسير إلى المستقبل [8] .

            ومثلما ضرب المثل باليابان كنموذج للإقلاع الذاتي المستفيـد بوعي مما عند الآخرين، فإنه يقدم هذا البلد كنموذج للتخطيط الفاعل [9] .

            وفي إطار التخطيط الذي يراعي الإمكانات والممكنات لصنع المكانات، فإنه يحث على دراسة العوائق لتجنبها، ودراسة العوامل المساعدة لاستثمارها وتعظيمها في عملية الإنجاز وتحقيق الهدف [10] .

            ويبدو أنه يعد المدرسة نقطة الانطلاق ومدرج الصعود، ومضغة التغيير، من خلال تأكيده على أنها "دائرة تخطيط ومركز مشروع" [11] . [ ص: 149 ]

            ويرى أن للتخطيط ثمارا كثيرة وكبيرة، ومن أهمها أنه يجعل الحركة ذاتية، فإن الذي لا يخطط سيدخل في دوامات الآخرين [12] ، أي أن تصرفاته وتحركاته ستصبـح ردود أفعال ومجرد انفعالات قد تقود أصحابها إلى الحضور في المكان والزمان غير المناسبين بفعل من مكر الآخرين وغياب التخطيط عندنا.

            ولا يلبث أن يعيـد التأكيد كرة بعد كرة على وجوب "تعيين الغايات والوسـائل والأهداف والمقاصد من جديد، مع الارتباط بموثق وعهد قلبي" [13] .

            ومن العبارات الجميلة التي كررها في عدد من كتبه وكتاباته حول وجوب التدقيق في الخطط والتحركات قوله: "وتدقيقنا الأدق الذي يشطر الشعرة أربعين شطرا" [14] .

            وهكذا يصير التخطيط جسر العبور الواثق من (الانفعالات) إلى (الفاعلية) التي يجب أن تكون حاضرة في صميم العالم الإسلامي ممارسة، كما هي حاضرة فكرا. [ ص: 150 ]

            د - استثمار الوقت:

            وإذا كان الوقت أحد الأضلاع في مثلت النهـوض الحضاري عند مالك بن نبي بجانب الإنسان والتراب، فإنه - عند جولن - أحد شروط النهوض وصناعة الفاعلية في عمارة الحياة وخدمة الخلق وعبادة الحق [15] .

            هـ- العمل الحثيث:

            لم يخل أي كتاب أو مقالة لجولن من الحديث عن أهمية الأعمال في ترجمة الإيمان إلى مشاريع، وتجسيده في مؤسسات تتوزع في سائر شعب الحياة وميادينها، وذلك خدمة للذات والأهل والمجتمع الوطني والقومي والإنساني، وخدمة للدين والشرف والقيم، مع حضه على ضرورة التجويد والإحسان والإتقان، وهي درجات إذا سلكها المرء أوصلته إلى ذرى الفاعلية [16] .

            3- ضرورة (الاختلاط) وخطورة (الاختلال):

            جعل جولن الخط الواصل بين القلب والعقل أشبه بالدائرة، فالعقل يصل خطه إلى القلب، والقلب يصل خطه إلى العقل، وبهذا الوصل تتكون دائرة ويستحيل الانفصام [17] . [ ص: 151 ]

            وفي حثه على ضرورة الخلط والمزج بينهما جعل القلب والعقل عضوين في ذات العين، فالعقل هو قسم البياض من العين والقلب هو القسم الأسود منها [18] .

            وفي نظرته لبعض العلوم والقضايا التي تبدو لأول وهلة أنها تنتمي بصورة سافرة إلى العقل فإنه يضفي عليها ظلالا روحية وقلبية، والعكس بالنسبة للقلب والروح، ومن ذلك التصوف، فهو عندما يضع له بعض التعريفات، يجعله محضنا جامعا للقلب والعقل في آن واحد [19] .

            وفي فهمه للفلسفة وهي بضاعة العقل، أعطاها عرفانا قلبيا، وبعد ذلك كله طالب بالجمع بينها وبين الحكمة والتصوف [20] .

            وقد أعطى لهذا الدمج المتوازن مبررات عديدة بعضها فلسفي منطقي [21] ، وبعضها عملي واقعي. ومن المبررات العملية: وجود الكثير من أوجه الخلل في الحياة والتي تأتي بسبب الانفصام أو عدم التوازن [22] ، ومن ثم يصير هذا التوازن معراجا للوصول إلى الكثير من الكمالات.

            وفي قراءته التحليلية العميقة - مهما كانت الكلمات قليلة - لظاهرة الفرقة في الصف الإسلامي، فإنه يعيدها إلى اختلال هذا التوازن، مع الحرمان [ ص: 152 ] من القيادة والتوجيه [23] . ومن ثم يصبح من الطبيعي أن يكون التزاوج المنسجم بين الأفكار والمشاعر هو الطريق لوحدة الأمة [24] .

            لهذا كله فقد توصل إلى ضرورة اندماج العقل والروح والجسم في شخصية واحدة، بحيث تمتزج بمقادير مناسبة، ورأى أن هذا التمازج لب صفات رجل الحقيقة [25] .

            ومن أجل أن يبقى الانفعال والفاعلية متوهجتين، فإنه يدعو إلى التجديد، لأنه وسيلة مهمة في هذا الوهج [26] .

            وهكذا، فإن (اهتياج) المشاعر يؤدي إلى (ابتهاج) الأرواح، وإن ثوران (الانفعالات) المنضبطة بمقاصد النقل وحقائق العقل يصنع (الفاعليات)، ويصبح (ربيع الأفكار) مدخلا (لصيف الأفعال)!

            ولما كان العقل زينة الإنسان وقنديل (الأرض) وأداة إدراك (الواقع)، وكان القـلب هـدية (السماء) وقادحة استشراف المعالي و (المثاليات)، فإن الموازنة الخامسـة ستكون حول الجمع بين السماء والأرض، أو بين المثل والواقع. [ ص: 153 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية