الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4388 185 - (حدثني عبد الله بن محمد، قال: حدثني يحيى بن معين، حدثنا حجاج، قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة، وكان بينهما شيء: فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحل حرم الله؟ فقال: معاذ الله إن الله كتب ابن الزبير وبني أمية محلين، وإني والله لا أحله أبدا. قال: قال الناس: بايع لابن الزبير. فقلت: وأين بهذا الأمر عنه، أما أبوه فحواري النبي صلى الله عليه وسلم، يريد الزبير، وأما جده فصاحب الغار، يريد أبا بكر، وأما أمه فذات النطاق، يريد أسماء، وأما خالته فأم المؤمنين، يريد عائشة، وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم، يريد خديجة، [ ص: 268 ] وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته، يريد صفية، ثم عفيف في الإسلام قارئ للقرآن، والله إن وصلوني وصلوني من قريب، وإن ربوني ربوني أكفاء كرام، فآثر التويتات والأسامات والحميدات، يريد أبطنا من بني أسد، بني تويت، وبني أسامة، وبني حميد، إن ابن أبي العاص برز يمشي القدمية، يعني عبد الملك بن مروان، وأنه لوى ذنبه، يعني ابن الزبير.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الحديث الثالث من الأحاديث الثلاثة التي أخرجها عن عبد الله بن محمد المذكور، وهو يرويه عن يحيى بن معين -بضم الميم- ابن عون أبي زكريا البغدادي، عن حجاج بن محمد المصيصي، إلى آخره.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وكان بينهما) أي بين ابن عباس وابن الزبير، ولكن لم يجر ذكرهما فأعاد الضمير إليهما اختصارا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (شيء) يعني مما يصدر بين المتخاصمين، وقيل: الذي وقع بينه وبين ابن الزبير كان في بعض قراءة القرآن.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فغدوت) من الغدو وهو الذهاب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقلت أتريد) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار، يخاطب به ابن أبي مليكة ابن عباس.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فتحل) بالنصب من الإحلال.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حرم الله) بالنصب على المفعولية، ويروى: فتحل ما حرم الله، أي من القتال في الحرم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقال معاذ الله) أي فقال ابن عباس: العوذ بالله على إحلال الحرم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إن الله كتب ابن الزبير) أي قدر ابن الزبير وبني أمية محلين بكسر اللام، أراد أنهم كانوا محلين يعني مبيحين القتال في الحرم، وكان ابن الزبير يسمى المحل.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وإني والله لا أحله) من كلام ابن عباس، أي لا أحل الحرم أبدا، وهذا مذهب ابن عباس أنه لا يقاتل في الحرم وإن قوتل فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قال قال الناس) القائل هو ابن عباس، وناقل ذلك عنه هو ابن أبي مليكة، والمراد بالناس من كان من جهة ابن الزبير.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بايع) أمر من المبايعة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقلت) قائله ابن عباس.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأين بهذا الأمر عنه) أراد بالأمر الخلافة، يعني ليست بعيدة عنه لما له من الشرف من قوله: (أما أبوه) إلى آخره، أي أما أبو عبد الله وهو الزبير بن العوام فحواري النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مضى في مناقب الزبير عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير بن العوام" والحواري الناصر الخالص.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يريد الزبير) أي يريد ابن عباس بقوله: "فحواري النبي صلى الله عليه وسلم" الزبير بن العوام.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأمه) أي وأم عبد الله بن الزبير.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فذات النطاق) وسميت أمه بذات النطاق؛ لأنها شقت نطاقها لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسقائه عند الهجرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يريد أسماء) يعني يريد ابن عباس بقوله: "ذات النطاق" أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأما خالته) أي خالة عبد الله فهي أم المؤمنين عائشة أخت أسماء.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأما عمته) فهي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد وهي أخت العوام بن خويلد، وأطلق عليها عمته تجوزا؛ لأنها عمة أبيه على ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأما عمة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فجدته) أي جدة عبد الله بن الزبير وهي صفية بنت عبد المطلب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ثم عفيف) أي ثم هو -يعني عبد الله- عفيف، وانتقل من بيان نسبه الشريف إلى بيان صفاته الذاتية الحميدة بكلمة ثم التي هي للتعقيب، وأراد بالعفة في الإسلام النزاهة عن الأشياء التي تشين الرجل، والعفة أيضا الكف عن الحرام والسؤال من الناس.

                                                                                                                                                                                  قوله: (والله إن وصلوني إلى آخره) من كلام ابن عباس أيضا، فيه عتب على ابن الزبير وشكر بني أمية، وأراد بقوله: "إن وصلوني" بني أمية من صلة الرحم، وفسره بقوله: "وصلوني من قريب" أي من أجل القرابة، وذلك أن ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وإن ربوني) بفتح الراء وتشديد الباء الموحدة المضمومة من التربية.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ربوني أكفاء) من قبيل "أكلوني البراغيث" وأصله "ربني أكفاء" وكذا وقع في رواية الكشميهني على الأصل، وارتفاع أكفاء بقوله "ربوني" أو "ربني" على الروايتين، والأكفاء جمع كفء من الكفاءة في النكاح وهو في الأصل بمعنى النظير والمساوي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (كرام) جمع كريم، وهو الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل، وروى ابن مخنف الأنصاري بإسناده أن ابن عباس لما حضرته الوفاة بالطائف جمع بنيه فقال: يا بني إن ابن الزبير لما خرج بمكة شددت أزره ودعوت [ ص: 269 ] الناس إلى بيعته، وتركت بني عمنا من بني أمية الذين إن قتلونا قتلونا أكفاء وإن ربونا ربونا كراما، فلما أصاب ما أصاب جفاني.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فآثر التويتات) أي اختار التويتات والأسامات والحميدات علي، ورضي بهم وأخذهم، وفي رواية ابن قتيبة: فشددت على عضده فآثر علي فلم أرض بالهوان، وآثر بالمد، ووقع في رواية الكشميهني فأين -بسكون الياء آخر الحروف وبالنون- وهو تصحيف، والتويتات -بضم التاء المثناة من فوق وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف بعدها تاء مثناة من فوق أخرى- جمع تويت وهو ابن الحارث بن عبد العزى بن قصي، والأسامات جمع أسامة نسبة إلى بني أسامة بن أسد بن عبد العزى، والحميدات نسبة إلى بني حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، فهؤلاء الثلاثة من بني عبد العزى.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يريد أبطنا) يعني: ابن عباس من هذه الثلاثة، أبطنا جمع بطن، وهو ما دون القبيلة وفوق الفخذ، ويجمع على بطون أيضا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (من بني أسد بن تويت) قال عياض: وصوابه: يريد أبطنا من بني أسد بن تويت، وكذا وقع في (مستخرج) أبي نعيم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وبني أسامة) أي ومن بني أسامة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وبني حميد) أي ومن بني حميد، وذكر ابن عباس هؤلاء الثلاثة على سبيل التحقير والتقليل؛ فلذلك جمعهم بجمع القلة حيث قال أبطنا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أن ابن أبي العاص برز) أي ظهر وهو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص نسبة إلى جد أبيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يمشي القدمية) بفتح القاف وفتح الدال وضمها وسكونها وكسر الميم وتشديد الياء آخر الحروف، قال عبيد: يعني يمشي التبختر، ضربه مثلا لركوبه معالي الأمور، وسعى فيها، وعمل بها، وقال ابن قتيبة: القدمية هي التقدمة، وقال ابن الأثير: الذي عند البخاري "القدمية" معناه تقدمه في الشرف والفضل، والذي جاء في كتب الغريب: والتقدمية واليقدمية بالتاء والياء يعني التقدم، وعند الأزهري بالياء أخت الواو، وعند الجوهري بالتاء المثناة من فوق، وقيل: إن اليقدمية بالياء أخت الواو وهو التقدم بالهمة والفضل، وفي (المطالع) رواه بعض "اليقدمية" بفتح الدال وضمها، والضم صح عن شيخنا أبي الحسن.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأنه) أي وأن ابن الزبير.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لوى ذنبه) أي ثناه وصرفه، يقال: لوى فلان ذنبه ورأسه وعطفه إذا ثناه وصرفه، ويروى بالتشديد للمبالغة، وهو مثل لترك المكارم والزوغان عن المعروف وإيلاء الجميل، وقيل: هو كناية عن التأخر والتخلف، ويقال: هو كناية عن الجبن وإيثار الدعة، وقال الداودي: المعنى أنه وقف فلم يتقدم ولم يتأخر، ولا وضع الأشياء فأدنى الكاشح الناصح وأقصى، وقال ابن التين: معنى "لوى ذنبه" لم يتم له ما أراده، وكان الأمر كما ذكر، والآن عبد الملك لم يزل في تقدم من أمره إلى أن استنقذ العراق من ابن الزبير، وقتل أخاه مصعبا، ثم جهز العساكر إلى ابن الزبير فكان من الأمر ما وقع، وكان ولم يزل ابن الزبير في تأخر إلى أن قتل.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية