الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4208 5 - حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن عبد الملك، عن عمرو بن حريث، عن سعيد بن [ ص: 88 ] زيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قال الخطابي: لا وجه لإدخال هذا الحديث هنا؛ لأنه ليس المراد من الكمأة في الحديث أنها نوع من المن المنزل على بني إسرائيل، فإن ذلك شيء كان يسقط عليهم كالترنجبين، وإنما المراد أنها شجرة تنبت بنفسها من غير استنبات ولا مؤنة، ورد عليه بأن في رواية ابن عيينة عن عبد الملك بن عمير في هذا الباب من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، رواه الدارقطني، وبهذا تظهر المناسبة في ذكره هنا، وكأن الخطابي لم يطلع على رواية ابن عيينة عن عبد الملك، فلذلك قال ذلك.

                                                                                                                                                                                  وأبو نعيم بضم النون الفضل بن دكين وسفيان هو الثوري هنا، وإن كان سفيان بن عيينة يروي أيضا عن عبد الملك بن عمير؛ لأن الغالب إذا أطلق سفيان عن عبد الملك يكون الثوري، وكذا ذكره أبو مسعود لما ذكر هذا الحديث، وعمرو بن حريث القرشي المخزومي، وله صحبة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الطب عن محمد بن المثنى، وأخرجه مسلم في الأطعمة عن محمد بن المثنى وعن غيره، وأخرجه الترمذي في الطب عن أبي كريب وغيره، وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم وغيره، وفي الوليمة عن يحيى بن حبيب وغيره، وفي التفسير عن محمد بن المثنى وغيره، وأخرجه ابن ماجه في الطب عن محمد بن الصباح.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الكمأة" بفتح الكاف وإسكان الميم وفتح الهمزة، واحدها كمء، وعكسه تمرة وتمر، وهو من النوادر. وقال ابن سيده: جمع الكمء أكمؤ وكمأة، هذا قول أهل اللغة، وقال سيبويه: ليست الكمأة بجمع كمء؛ لأن فعلة ليس مما يكسر على فعل، وإنما هو اسم الجمع، وقال أبو حنيفة: كمأة واحدة، وكمأتان وكماء، وعن أبي زيد: أن الكمأة تكون واحدة وجمعا، وفي الجامع الجمع القليل أكمؤ على أفعل، والجمع الكثير كماء، وقال صاحب التلويح: الصحيح من هذا كله ما حكاه سيبويه، وذكر عبد اللطيف بن يوسف البغدادي أن الكمأة جدري الأرض، وتسمى بنات الرعد; لأنها تكثر بكثرته وتنفطر عنها الأرض، وقال أبو حنيفة: أول اجتنائها سقوط الجبهة، وهي تتطاول إلى أن يتحرك الحر، وكمأة السهل بيضاء رخوة، والتي بالآكام سوداء جيدة، وقيل: الكمأة هي التي إلى الغبرة والسواد، وفي الجامع تخرج ببعض الأرض.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن خالويه في كتابه: ليس في كلام العرب من أسماء الكمء إلا الذي أعرفك: الذعلوق والبرنيق والمغرود والفقع والجب وبنات أوبر والعقل والقعيل، بتقديم القاف على العين، والجباة، يقال: كمأت الأرض أخرجت كماءها، وأجبأت أخرجت جباءها، وهي الكمأة الحمراء والبدأة، يقال: بدئت الأرض بكسر الدال، وعن أبي حنيفة الفردة والفراد وعصاقل وقرحان والخماميس، ولم أسمع لها بواحد قاله الفراء، وعند القزاز العرجون ضرب من الكمأة قدر شبر، أو دون ذلك، وهو طيب ما دام غضا، والجمع العراجين، والفطر قال ابن سيده: هو ضرب من الكمأة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "من المن" ظاهره أن الكمأة من نفس المن، وأبو هريرة أخذ بظاهره على ما رواه الترمذي من حديث قتادة قال: حدثت أن أبا هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ أو خمسة أو سبعا فعصرتهن، وجعلت ماءهن في قارورة، وكحلت به جارية فبرئت. وقال ابن خالويه: يعصر ماؤها ويخلط به أدوية، ثم يكتحل به، قال ابن العربي: الصحيح أنه ينتفع بصورتها في حال، وبإضافتها في أخرى، وفي الجامع لابن بيطار: هي أصل مستدير، لا ورق ولا ساق لها، ولونها إلى الحمرة مائل، تؤخذ في الربيع وتؤكل نية ومطبوخة، والغذاء المتولد منها أغلظ من المتولد من القرع وليست بردى الكيموس، وهي في المعدة الحارة جيدة; لأنها باردة رطبة في الدرجة الثانية، وأجودها أشدها تلذذا وملاسا وأميلها إلى البياض، والمتخلخلة الرخوة ردية جدا، وماؤها يجلو البصر كحلا، وهي من أصلح أدوية العين وإذا رتب بها الإثمد واكتحل به قوى الأجفان، وزاد في الروح الباصرة قوة وحدة، ويدفع عنها نزول الماء، وذكر ابن الجوزي أن الأطباء يقولون: إن أكل الكمأة يجلو البصر، وقيل: تؤخذ فتشق وتوضع على الجمرة حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ ميل فيصير في ذلك الشق، وهو فاتر، فيكتحل به ولا يجعل الميل في مائها وهي باردة يابسة، وقيل: أراد الماء الذي تنبت به، وهو أول مطر ينزل إلى الأرض فتربى به الأكحال، وقيل: إن كان في العين حرارة فماؤها وحده شفاء، وإن كان لغير ذلك فيركب مع غيره. وقال ابن التين: قيل: أراد أنها تنفع من تأخذه العين التي هي النظرة وذلك أن في بعض ألفاظ الحديث: "وماؤها شفاء من العين" قال: وقيل: يريد من داء العين، فحذف المضاف.

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي في قوله: "الكمأة من المن" ما ملخصه أنه لم يرد به أنها من المن الذي أنزل على موسى [ ص: 89 ] بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام، فإن المروي أنه شيء كان يسقط عليهم كالترنجبين، وقد ذكرنا هذا في أول الحديث، والجواب عنه أيضا، وقال النووي: قال كثيرون شبهها بالمن الذي أنزل عليهم حقيقة؛ عملا بظاهر اللفظ، وقيل: معنى قوله: "الكمأة من المن" يعني مما من الله على عباده بها بإنعامه ذلك عليهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية