الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن قال : إن كلمت ، إن دخلت : لم تطلق إلا بهما

التالي السابق


( وإن ) علق الطلاق على أمرين مكررا أداة الشرط بأن ( قال إن كلمت ) بكسر التاء مخاطبا زوجته والمفعول محذوف أي زيدا مثلا ( وإن دخلت ) بكسر التاء أيضا أي دار زيد مثلا ( لم تطلق ) الزوجة ( إلا ب ) مجموع ( هما ) أي الكلام والدخول سواء فعلتهما على الترتيب أو على عكسه . " غ " هذا تعليق تعليق ابن عرفة وتعليق التعليق [ ص: 150 ] على مجموع أمرين كإن دخلت هذه الدار فأنت طالق إن كانت لزيد لا يحنث إلا بدخولها وكونها لزيد ولو على التحنيث بالأقل اعتبارا بالتعليقين ، وعلى هذا الأصل اختلاف مذكور في إيلائها .

وفي كون الحلف على التعليق حلفا عليه فيخير إن وقع المعلق عليه بين حنث اليمين وحنث التعليق أو تأكيدا للتعليق فيتنجز بالمعلق عليه حنث التعليق قولا أكثر المتأخرين ، وأقلهم لابن سهل عن ابن زرب من قال لزوجته الأيمان لازمة له إن دخلت دار فلان إن كنت لي زوجة فدخلها ثم بارأها فقال ابن دحون تحير فيها أهل بلدنا فقال القاضي قد بر بمبارأتها ، وله أن يتزوجها ولا حنث عليه ، كمن قال لزوجته أنت طالق إن لم أطلقك فقال له أبو الأصبغ الخشني وغيره ليست مثلها لأنه قال لها كنت لي زوجة فيما رأيتها صارت له زوجة ولزمه الحنث ، فقال القاضي هي عندي مثلها إلا أن ينوي لا كنت لي بزوجة أبدا ، فإن نواه لزمه الحنث متى تزوجها .

وقال بعض أهل المجلس أفتى فيها بعض فقهاء بلدنا بطلاق الثلاث وأن المبارأة لا تنفعه ولا يجوز له أن يتزوجها بعد زوج . وقال ابن ميسر نزلت بقرطبة وكتب بها إلى ابن أبي زيد فقيه القيروان فأفتى فيها بفتيا القاضي . قلت جواب القاضي عن إيراد أبي الأصبغ الخشني لغو لأنه تكرير لعين دعواه أو لا ، ولو قال لأن الفعل في سياق النفي لا يقع جوابا لكان جوابا ، وهو مذهب الغزالي وقول الخشني على تعينه وهو اختيار ابن التلمساني وهو مقتضى مسائل المذهب في الأيمان . [ ص: 151 ] البناني ذكر ابن هشام النحوي في حواشي الألفية أن الفراء سأل الفقهاء عن هذه المسألة فاختلفوا فقال بعضهم لا تطلق إلا بمجموعهما مرتبين كترتيبهما في الذكر . وقيل بشرط عكس الترتيب . وقيل تطلق بهما معا مطلقا . وقيل بوقوع أي شرط ، واختار الفراء الثاني ، ووجهه أن فأنت طالق جواب في المعنى الأول فيكون في النية إلى جانبه ، ويكون ذلك المجموع جواب الثاني فيكون في النية بعده ، ويعني بذلك الدلالة على الجواب كما في أنت ظالم إن فعلت لا أن المتقدم نفسه هو الجواب ، واقتصر في المغني وابن مالك في التسهيل على رأي الفراء واختاره ابن الحاجب أيضا .

الدماميني دخل ابن الحاجب على القاضي ابن خلكان لأداء شهادة فسأله عنها فأجابه بجواب مختصر ، ثم كتب إليه جوابا حسنا . حاصله أنه وجد فيها شرطان وليس فيها ما يصلح للجواب إلا شيء واحد فلا يخلو إما أن يجعل جوابا لهما معا ولا سبيل إليه للزوم اجتماع عاملين على معمول واحد ، وإما أن لا يجعل جوابا لواحد منهما ولا سبيل إليه للزوم الإتيان بما لا مدخل له في الكلام وترك ما له مدخل فيه ، وإما أن يجعل جوابا للثاني فقط ولا سبيل إليه للزوم كونه مع جوابه جواب الأول ، ووجوب الفاء الرابطة ولا فاء فتعين أنه جواب للأول وهو وجوابه دليل جواب الثاني : الدماميني وهذا وجه مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه في اشتراط عكس ترتيب الذكر ، ووجه مذهب مالك رضي الله تعالى عنه بحذف واو العطف كقوله : [ ص: 152 ]

كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد اللبيب

وضعف باختصاصه بالضرورة ، وذكر بعض الحذاق أن توجيه ابن الحاجب والتسهيل والمغني توجيه مذهب مالك رضي الله تعالى عنه أيضا ، ولا يقتضي عكس الترتيب كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه إلا لو أبقى الشرطان على الاستقبال ، فإن أول الأول بمعنى الثبوت شمل الاستقبال وغيره ، وصار معنى المثال إن دخلت الدار فإن ثبت كلامك فأنت طالق ، وهذا شامل لوقوع الكلام قبل الدخول وبعده ، وبحث فيه باقتضائه الحنث بكلامها قبل التعليق وليس كذلك .

والظاهر أنه لا حاجة لتأويل الأول بالثبوت وأن مذهب الشافعي على استقبال الفعل الأول باعتبار زمن الثاني لتوقفه عليه ، ومذهبنا على استقبال كل من الفعلين باعتبار زمن التكلم وهو الظاهر لأن المتوقف على الثاني إنما هو لزوم حكم التعليق لا المعلق عليه ، وظهر به أن توجيه ابن الحاجب يصلح لكل من المذهبين والله أعلم ، ولا معارضة بين ما هنا وما تقدم من الحنث بالبعض الذي قال فيه ابن رشد في البيان لم يختلف قول مالك رضي الله تعالى عنه ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت أن من حلف أن لا يفعل فعلين ففعل أحدهما أو لا يفعل فعلا ففعل بعضه أنه حانث من أجل أن ما فعله من ذلك قد حلف أن لا يفعله ، إذ هو بعض المحلوف عليه . ا هـ . لأن ما تقدم فيه تعليق واحد وما هنا فيه تعليق التعليق ، ومعلوم أن المعلق لا يوجد إلا بعد وجود المعلق عليه وذلك يستلزم هنا توقف الطلاق على مجموعهما كما هو ظاهر أفاده البناني .




الخدمات العلمية