الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والناس إذا وقعوا في البدع والمعاصي نقص عليهم إيمانهم ، وإلا فمن كان عالما بالحق قاصدا له أغناه ذلك عن أن يعتقد الباطل ويتبعه . ولهذا كانت الصحابة رضوان الله عليهم من أبعد الناس عن الذنوب والبدع ، لاستغنائهم بالعلم والإيمان بالله [وما] تلقوه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تجد أحدا وقع في بدعة إلا لنقص اتباعه للسنة علما وعملا . وإلا فمن كان بها عالما ، ولها متبعا لم يكن عنده داع إلى البدعة ، فإن البدعة يقع فيها الجهال بالسنة ، وكذلك الزنا والسرقة وشرب الخمر ، إنما يزني من عنده شهوة يطلب قضاءها .

فأما من قضى شهوته بما هو أحب إليه وفترت ، فلا يبقى عنده داع ، ومن أحب طلب شيء آخر فشهوته لم تقض بل قضي بعضها ، [ ص: 251 ] وقضاء الشهوة إنما هو حصول المطلوب كله ، فممتنع معه أن يطلب ما يحصل ما قد حصل .

وكذلك السارق إنما يسرق لما عنده من إرادة المال ، ولكن من الناس من لا يقف عند حد ، بل لو حصل عنده أي شيء كان أحب الزيادة ، ولهذا يسرق وإن لم يكن ثم منافع أخر .

وكذلك شارب الخمر يشربها لما يطلب بها من حصول اللذة وزوال الغم ، فإذا كانت اللذة الحاصلة بالصلاة وذكر الله أكمل وهي تصده عن ذلك لم يكن عنده داع إليها .

ومما يبين هذا قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ، مع قول الشيطان : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ، وقال تعالى في حق يوسف الصديق : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ، فإن عباده تعالى هم الذين عبدوه وليس المراد كل من خلقه ، فإن الشياطين عباد بهذا الاعتبار ، بل هذا كقوله تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ، وقوله : عينا يشرب بها عباد الله ، وقوله : وأنه لما قام عبد الله يدعوه . [ ص: 252 ]

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار ، تعس عبد القطيفة ، تعس عبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن منع سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش" .

فعبد الله الذي هو عبده لا بد أن يكون الله أحب إليه مما سواه ، فإن الذين جعلوا لله أندادا يحبونهم كحب الله مشركون لا مؤمنون ، والذين آمنوا أشد حبا لله ، ولا بد أن يكون الله أخوف عندهم مما سواه ، ومن كان كذلك صرف عنه السوء والفحشاء كما صرف عن يوسف .

بخلاف المشركين الذين جعلوا لله أندادا يحبونهم كحب الله ، فهؤلاء ليسوا عباده ، و لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، فالمشرك به لا يحصل له ما يقر عينه ، ويغني قلبه عن الأنداد ، بل هذا لا يحصل إلا بعبادة الله وحده . فإن الله سبحانه خلق عباده حنفاء; وللسلف في "الحنيف" عبارات ، قيل : المستقيم ، كقول محمد بن كعب القرظي . والمتبع ، كقول مجاهد . والمخلص ، كقول عطاء . وأما تفسيره بالمائل فهذا من قول بعض متأخري أهل اللغة ، وهو مبسوط في موضع آخر .

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كل مولود يولد على الفطرة" . وفي رواية : [ ص: 253 ]

"على فطرة الإسلام" . فالقلب مخلوق حنيفا مفطورا على فطرة الإسلام ، وهو الاستسلام لله دون ما سواه . فهو بفطرته لا يريد أن يعبد إلا الله ، فلا يطمئن قلبه ويحصل لذته وفرحه وسروره إلا بأن يكون الله هو معبوده دون ما سواه ، وكل معبود دون الله يوجب الفساد ، لا يحصل به صلاح القلب وكماله وسعادته المقتضية لسروره ولذته وفرحه ، وإذا لم يحصل هذا لا يبقى طالبا لما يلتذ به فيقع في المحرمات من الصور والشرب وأخذ المال وغير ذلك .

ولهذا لما كانت امرأة العزيز مشركة طالبة للفاحشة ، ويوسف شاب غريب ، فالداعي المطيع معه أقوى ، لكن معه من الإيمان ما يصده عن ذلك ، وتلك هي وقومها كانوا مشركين ، ولهذا قال لهم : إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله إلى قوله : أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم .

وما نقله بعض المفسرين من أن زوجها كان لا يصل إليها ، وأن يوسف تزوجها بعد ذلك فوجدها عذراء ، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يصدق به ، فإن هذا لم يخبر [ ص: 254 ] بنقله أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما هو منقول عن أهل الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرهم . وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" . لا سيما وقد نقلوا في قصة يوسف أشياء تخالف القرآن ، وتلك يجب القطع بأنها كذب ، وأما ما لم يعلم صدقه ولا كذبه يتوقف فيه .

وهذه الحكاية كذب; فإن هذا خلاف العادة الغالبة على بني آدم ، وإنما يقع مثل هذا نادرا ولو وقع لأخبر به .

والمراد لو كان الداعي لها مجرد الشهوة لعدم الزوج لكان في الرجال كثرة ، وإذا لم يحصل لها يوسف حصل لها غيره ، ومعلوم أن الجائع والشبق إذا طلب غلاما يشتهيه فيتعذر عليه لم يصبر عن الجوع والشبق بل يتناول ما تيسر له ، ولهذا يوجد صاحب الشبق يقضي شهوته بأخس ما يمكن ، فمن الرجال من يأتي بهيمة وكلبا وحمارا وطيرا ، ومن النساء من تمكن منها قردا وحمارا أو غير ذلك لغلبة الشهوة ، ومن النساء من تتخذ آلة الرجل على صورة عضو الرجل عند تعذر الرجال إلى أمثال ذلك ، فكيف إذا حصل للمرأة رجل ، وللرجل امرأة؟

فعلم أن المرأة هويت يوسف لجماله ، لا لكون زوجها لا يأتيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية