الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والزيارة المشروعة للمسلم : أن يسلم عليه ويدعى له ، كما أن الصلاة مقصودها الدعاء له . ولهذا نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الأمرين في حق المنافقين . كما قال تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ، نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم; فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم . وقد قال طوائف من السلف والخلف : وهو القيام على قبورهم بالدعاء والاستغفار .

فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له ، فأما اتخاذ القبور مساجد أو الإشراك بها فذلك كله حرام بإجماع المسلمين . كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرضه الذي مات فيه : "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"; يحذر ما صنعوا . قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا . [ ص: 368 ]

وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس : "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" .

وفي السنن عنه أنه قال : "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" .

وقد اتفق أئمة المسلمين على أنه لا تشرع الصلاة عند القبور ، وقصدها لأجل الدعاء عندها ، ولا التمسح بها وتقبيلها; سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم . بل ليس تحت أديم السماء ما يشرع التمسح به وتقبيله إلا الحجر الأسود ، والركن اليماني يستحب التمسح به .

وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين ، فلم يمسحوا إلا الركنين اليمانيين ، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام إبراهيم الذي هناك; فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقام غيره من الأنبياء والصالحين؟ وقد قال الله في كتابه : وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا . قال طوائف من الصحابة [ ص: 369 ] والتابعين : "هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم لما طال عليهم الأمد صوروا صورهم ، فكان ذلك مبدأ عبادة الأوثان" .

ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رواه مالك في الموطأ : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" . وفي السنن عنه أنه قال : "لا تتخذوا قبري عيدا" .

فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام ، فيكون بمنزلة لحم الخنزير ، وأما السفر للتعريف ببيت المقدس مثلا ، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد الثلاثة فهو أيضا منهي عنه ، وإن كان وجد في ذلك من عمد إلى هذه البدع التي فيها من الشرك ما فيها ، وتعبد بها وأقام بها ، وقصد ما يقصده من البقاع لأجلها ، وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، أليس هو ممن استبدل السيئات بالحسنات؟

الوجه الثاني : أنه لو قدر أنه قصد بعض هذه البقاع قصدا مشروعا مثل السفر إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه ، فإن هذا عمل صالح باتفاق المسلمين ، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة ، مثل البدع التي تفعل هنا من السماع [ ص: 370 ] للمكاء والتصدية في النصف وعشر ذي الحجة ونحو ذلك ، ومثل استلام بعض ما هناك من الأحجار ، فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين للبيت العتيق ، ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وظن أجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات . فالزيارة إذا سلمت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية ، والسفر إلى الثغر للرباط أفضل منها ، والعدول عن الفاضل إلى المفضول مع استوائهما غير محمود .

الوجه الثالث : أن من الناس من يقصد المجاورة ببيت المقدس ويدع المجاورة بالثغر الذي هو قريب منه . وهذا الباب من أفضل الأفضل وأجلها ، وهو فرض على الكفاية ، ومعلوم أن هذا أعظم خسرانا ، وأشد حرمانا ، وأبعد عن اتباع الشريعة; فإن المجاور بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المرابطة لاختلاف المكانين . أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذا إلى هذا لا يصدر إلا من جهل أو من ضعف إيمان ، اللهم [إلا] إذا نذر هذا فيكون هذا معذورا . وإنما الكلام فيمن يقدر على الأمرين .

ولهذا [لما] كان أهل البدع مهملين أمر الجهاد معظمين للزيارات ، استولى الكفار على كثير من الثغور ، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين من شاء الله ، وكان قد جرت فيه بدع كثيرة .

ومن ذلك من يقصد بعض هذه البقاع ، إما جبل لبنان وإما غيره ، إما لزيارته لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم ، ويدع أن يقصد للرباط في سبيل الله ، فإن هذا أيضا من الضلال العظيم ، وأصل السفر [ ص: 371 ] إلى الزيارة غير مشروع ولا مأمور به ، بل هو من البدع والضلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية