الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلتم : أردنا بالمعتبرين من المتكلمين صنفا من الطوائف كالمتكلمين من أصحاب الأشعري مثلا ، أو كافة المعتزلة أو المتكلمين من الفقهاء ونحو ذلك .

فالجواب عنه من وجوه :

أحدها : أنه ما من واحد من هؤلاء إلا له تأويلات ينكرها عليه [ ص: 79 ] بعض أصحابه مع أهل الحديث وغيرهم ، بل من هؤلاء [من] هو نفسه يحرم التأويل أو يبطله تارة ، ويسيغه ويصححه أخرى لأصحاب الحديث .

أما المعتزلة فمن أكثر الناس في التأويل ، وأهل الحديث وغيرهم من علماء المسلمين ينكرون عليهم تأويلاتهم المخالفة لهم تحريما وإبطالا .

وأما أصحاب الأشعري فهم ثلاثة أصناف :

صنف يحرم تأويل الصفات السمعية المذكورة في القرآن كالوجه واليد والعين ، ويبطل ذلك . وهذا هو الذي ذكره الأشعري في "الإبانة" ، حكاه عن أهل السنة جميعهم ، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن الباقلاني أفضل أصحابه ، وأبو علي ابن شاذان ، وذكره أبو بكر ابن فورك في اليد وغيرها ، وعليه الأشعرية المتمسكون بالقول الثاني .

وصنف يحرم التأويل ، ولا يتكلم في صحته ولا فساده . وهذا الذي ذكره أبو المعالي الجويني في رسالته "النظامية" ، وهو قول أكثر المفوضة من المتكلمين .

وصنف يبيحه للعلماء عند الحاجة ، ومنهم من يبيحه مطلقا .

وهذا قول الجويني في "إرشاده" وغيره ، وجميع هؤلاء مختلفون في صحة بعض التأويلات وفسادها . [ ص: 80 ]

فهؤلاء -كما ترى- مختلفون في التأويل تحريما وجوازا ، وصحة وفسادا .

وأما المعتزلة فهم وإن كانوا أكثر تأويلا فإنهم مختلفون في عامة التأويلات صحة وفسادا ، ومختلفون أيضا في جنس كثير من التأويل ، مثل اختلافهم في نصوص عذاب القبر ونعيمه : هل تتأول أو تجرى على ظاهرها; وفي نصوص الصراط والميزان والحوض :

هل تتأول أو لا تتأول ، إلى غير ذلك . منهم من يبيح تأويل ذلك ويصححه ، ومنهم [من] يحرمه ويبطله .

وسأذكر إن شاء الله مذاهب الأمة في أجناس التأويلات ، وإنما الغرض هنا أن من تعصب لفرقة من أهل الكلام وجعلهم هم المعتبرين دون غيرهم ، بحيث يبيح لهم التأويل ويدعي أن أحدا من المعتبرين لم يحظره عليهم لم يصح له ذلك; إذ ما من طائفة إلا وقد حرم وأنكر عليها أنواع من التأويل .

الوجه الثاني : أن تعيين القائل طائفة دون غيرها وتسميتها بالمعتبرين لا يخفى أنه نوع من التحكم والتعصب ، فإن مجرد [قول] القائل : أنا معتزلي أو أشعري ، أو أنا من أهل الحديث أو من الفقهاء ، أو إني حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي ، [لا] يصير به من المعتبرين عند الله ورسوله ، بحيث يباح له في الشرع بذلك ما كان محظورا ، ويسوغ له من التأويل ما كان محجورا عليه .

الوجه الثالث : أنا قلنا : "تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث باطل" ، وذلك لا يوجب أن يكون تأويل طائفة معينة باطلا ، [ ص: 81 ] ولا يوجب أن يكون تأويل معتبر باطلا ، فلا يرد هذا علينا .

الوجه الرابع : أنا سننقل إن شاء الله من النقول الكثيرة ما يبين ما عليه أهل الإسلام من إنكار التأويلات الصادرة عن كل طائفة من طوائف المتكلمين إن شاء الله .

فهذا كله في عدم توجيه سؤال القول بالموجب الذي جعل سنده "لا نسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين" .

قولكم : "فإن نقل ما ظاهره المنع حملناه على التأويل بغير دليل ، أو على غير القواعد العلمية ، توفيقا بين العلماء وصيانة لهم عن تخطئة بعضهم" غير وارد لوجوه :

أحدها : أن التأويل بغير دليل وبغير قواعد لا يبيحه ولا يسلكه أحد من عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم ، سواء كانوا كفارا أو مؤمنين ، مستنة أو مبتدعة ، فإن أشد الناس تأويلا من الفلاسفة والباطنية إنما يتأولون -زعموا- لقيام الأدلة العقلية الموجبة لتلك التأويلات عندهم ، ويزعمون أنهم يجرونها على القواعد العقلية والسمعية .

وأما المعتزلة فأمرهم في ذلك أظهر ، فإنهم يزعمون أنهم فرسان الكلام ودعاة الإسلام ، الحافظين له بالقواعد العقلية والموارد السمعية ، وأن من خالفهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والأشعرية والكلابية والكرامية وغيرهم هم حشو الناس . وهم أهل فتنة واضطراب ، [ ص: 82 ] ثم بين البصريين منهم والبغداديين من الاختلاف في القياس ما الله به عليم ، ثم بين شيوخ البصريين وشيوخ البغداديين خلاف عظيم ، وكل منهم إنما يتأول بدليل عنده وعلى القواعد العلمية .

بل الأشعرية ونحوهم من المتكلمين المنتسبين إلى أهل الحديث مختلفون في التأويل صحة وفسادا وحلا وحظرا ، والمتأول منهم إنما يتأول للدليل وعلى القواعد .

فإذا كان كل متأول إنما تأول بدليل وعلى القواعد ، فقد خالفه غيره من أهل الحديث وغيرهم في التأويل ، فكيف يمكن أن يحمل إنكارهم على التأويل الخالي من الدليل والقواعد؟

التالي السابق


الخدمات العلمية