الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا ففي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه من بين حيه وأهله إلى صلاته ، فيقول الله عز وجل لملائكته : انظروا إلى عبدي ، ثار عن فراشه ووطائه من أهله وحيه إلى صلاته ، رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي . ورجل غزا في سبيل الله ، فانهزم مع أصحابه ، فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع ، فرجع حتى يهريق دمه . فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي حتى يهريق دمه" فهذا رجل انهزم هو وأصحابه ، ثم رجع وحده فقاتل حتى قتل .

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يعجب منه; [و] عجب الله من الشيء يدل [ ص: 322 ] على عظم قدره ، وأنه لخروجه عن نظائره يعظم درجته ومنزلته .

وهذا يدل على أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضي ، لا يكتفى فيه بمجرد الإباحة والجواز; حتى يقال : وإن جاز مقاتلة الرجل حيث يغلب على ظنه أنه يقتل فترك ذلك أفضل .

بل الحديث يدل على أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه ، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يقتل فيه الرجل كثيرا أو غالبا ، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار المحرم ، فإنه مع هذه التوبة جاهد هذه المجاهدة الحسنة .

قال الله تعالى : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم .

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" .

فمن فتنه الشيطان عن طاعة الله ثم هجر ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان داخلا في هذه الآية . وقد يكون هذا في شريعتنا عوضا عما أمر به بنو إسرائيل في شريعتهم لما فتنوا بعبادة العجل بقوله : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم .

وقال تعالى : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما إلى قوله : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم . . . [ ص: 323 ]

وذلك يدل على أن التائب قد يؤمر بجهاد تعرض به نفسه للشهادة .

فإن قيل : قد قال الله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا إلى قوله : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين . وقد قالوا : إن ما أمر به من مصابرة الضعف في هذه الآية ناسخ لما أمر به قبل ذلك من مصابرة عشرة الأمثال .

قيل : هذا أكثر ما فيه أنه لا تجب المصابرة لما زاد على الضعف ، ليس في الآية أن ذلك لا يستحب ولا يجوز .

التالي السابق


الخدمات العلمية