الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما حال المسايفة فللفقهاء ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو قول الجمهور ، أنهم يصلون بحسب حالهم مع المقابلة; وهذا مذهب الشافعي وغيره وظاهر مذهب أحمد .

والثاني : أنهم يؤخرون الصلاة; وهو قول أبي حنيفة .

والثالث : أنهم يخيرون بين الأمرين وهو أحد الروايتين عن أحمد .

وقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركبانا هو مع ما قد ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عام الخندق : "شغلونا عن الصلاة الوسطى [ ص: 354 ] صلاة العصر حتى غربت الشمس ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا"; قد احتج به وبغيره على أن تأخير الصلاة في حال الخوف منسوخ بهذه الآية .

وأجابوا بذلك عما احتج به من جوز الأمرين من قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر أنه قال : "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" ، فصلى قوم في الطريق وقالوا : لم يرد منا تفويت الصلاة ، وأخر قوم الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة ، وقد فاتتهم الصلاة ، فلم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة من الطائفتين . فهذا الحديث حجة في جواز الأمرين ، لكن قال أولئك : [إنه] منسوخ بالآية .

فقد تبين أن الصلاة لما كانت أوكد من الجهاد; فإنها عند مزاحمة الجهاد لها أخف ، حتى لا تفوت مصلحة الجهاد ، وقد يحصل من الفساد بترك الجهاد وقت الضرورة ما لا يمكن تلافيه .

وهذا أيضا كالحج وإن كان دون الصلاة باتفاق المسلمين . فإذا تضيق وقته وازدحم هو والمقصود ، مثل أن يكون ليلة النحر وهي ليلة عرفة ذاهبا إلى عرفة; فإن صلى صلاة مستقر فاته الوقوف ، وإن سار ليدرك عرفة قبل طلوع الفجر فاتته الصلاة . فللفقهاء ثلاثة أقوال : قيل : يقدم الوقوف; لأن عليه من تفويت الحج ضررا عظيما .

وقيل : بل يقدم الصلاة لأنها أوكد . [ ص: 355 ]

وقيل : بل يأتي بهما جميعا ، فيصلي بحسب الإمكان صلاة لا تفوته الوقوف . وهذا أعدل الأقوال ، وهو قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما .

والعلماء متفقون على أن الخائف المطلوب يصلي صلاة خائف .

فأما الطالب فتنازعوا فيه ، وفيه عن أحمد روايتان : إحداهما أنه يصلي أيضا صلاة الخوف . كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن كأبي داود عن عبد الله بن أنيس قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي ، وكان نحو عرنة وعرفات ، فقال : اذهب فاقتله . قال : فرأيته وحضرت الصلاة صلاة العصر فقلت : إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة . فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه . فلما دنوت منه قال لي : من أنت؟

قلت : رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل ، فجئتك في ذاك ، قال : إني لفي ذاك . فمشيت معه ساعة ، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد .


ومن قال هذا القول راعى أن مصلحة الجهاد مأمور بها أيضا ، فلا يمكن تفويت إحداهما ، وإن لم يكن من تفويت الجهاد في هذا الوقت مفسدة ظاهرة كما أنه ليس في تأخير الصلاة مفسدة ظاهرة .

ولو كان تكميل الصلاة مقدما على الجهاد لكان ينبغي أن يترك الجهاد إذا علم أنه لا بد فيه من تحقيق الصلاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية