الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونفاة الصفات يتأولون أنزله بعلمه و ذو القوة والسمع والبصر ونحو ذلك ، ومثبتو الصفات من أهل الحديث والكلام ينكرون هذه التأويلات . بل الأشعرية المتمسكون بالقول الثاني -كالأشعري في "الإبانة" ، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني ، وابن شاذان ، وابن فورك وغيرهم- ينكرون على من يتأول صفة اليد والوجه وغير ذلك ، كما صرحوا به في كتبهم .

والمسلمون جميعا ينكرون على متكلمي الفلاسفة الذين يتأولون ما ورد في صفة الملائكة والجن والجنة والنار والقيامة وحشر الأجساد .

وأهل الإثبات جميعا -أهل الحديث وأهل الكلام- ينكرون [ ص: 74 ] على القدرية الذين يتأولون آيات الإضلال والختم والطبع والإغواء ونحو ذلك من نصوص القدر .

وأهل الحديث قاطبة مع من وافقهم من أهل الكلام ينكرون على من يتأول النصوص المدخلة للأعمال في الإيمان .

وجميع أهل القبلة إلا الوعيدية ينكرون على الخوارج والمعتزلة تأويلهم نصوص الشفاعة .

والمسلمون جميعا ينكرون على القرامطة والباطنية والإسماعيلية وزنادقة الفلاسفة وغلاة الصوفية تأويل نصوص الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والجنايات ونحو ذلك .

وأهل الحديث قاطبة والفقهاء والصوفية مع من اتبعهم من المتكلمين وجماهير أهل القبلة ينكرون على المتكلمين والمتفلسفة الذين يتأولون نصوص الفوقية والعلو . وكذلك ينكرون على الذين يتأولون نصوص الصفات بما سنذكره إن شاء الله .

وأهل القبلة جميعا محدثوهم وفقهاؤهم ومتكلموهم إلا الخوارج والمعتزلة ينكرون تأويل هاتين الفرقتين النصوص المدخلة للعصاة في اسم الإيمان في الجملة .

دع التأويلات المتعلقة بأصول الدين ، هؤلاء الفقهاء لا يزال بعضهم يرد تأويلات بعض ويبين فسادها قديما وحديثا ، ويوافقهم على ذلك الرد أهل الحديث ، مع أن الفقهاء معتبرون ، فكيف يقال : لا نسلم أن معتبرا رد تأويل معتبر ، بل مفسرو القرآن وشراح الحديث [ ص: 75 ] لا يزال أهل الحديث وغيرهم يردون بعض تلك التفسيرات والتأويلات وينكرون ، وذلك أشهر وأكثر من أن يسطر .

ثم كل من هؤلاء الممنوع من ذلك التأويل المردود تأويله معتبر ، بمعنى أنه ذو ذهن ذكي وعلم واسع وفضيلة جيدة ، بل كثير من هؤلاء المردود عليهم يعتقد أتباعه فيه أنه أفضل من كثير من المعظمين عند غيره ، فإن فسرت "المعتبر" بأنه المهتدي أو الذي أجمع المسلمون على أمانته ، فالجواب من وجوه :

أحدها : أنا لا نسلم أن تأويل مثل هذا لا يرد ، بل تأويله الباطل يرد ، كما ترد فتواه الضعيفة وحديثه الذي غلط فيه .

الثاني : أن مثل هذا لا يدخل في مطلق اسم المتكلمين عندنا ، كما يشهد به استعمال لفظ المتكلمين .

الثالث : أن هذا منع لغير ما ذكر ، فإنا قلنا : تأويل المتكلمين المخالف لتأويل المحدثين باطل ، فقيل : لا نسلم أن تأويل من [علم] هداه أو من استفاض عند الأمة هداه باطل ، ونحن ما ادعينا هذا قط ، وما ذكرناه من هذا الكلام إنما هو نزول مع المخاطب ، فإنه فهم من قولنا "أهل الحديث" المحدثين الذين يروون الحديث أو يحفظونه ، وهذا لا يدل عليه لفظنا ولم نعنه ، فإن أهل الحديث هم المنتسبون إليه اعتقادا وفقها وعملا ، كما أن أهل القرآن كذلك ، سواء رووا الحديث أو لم يرووه ، بحيث يدخل في مثل هذه العبارة اسم التابعين وتابعيهم ، كالفقهاء السبعة : سعيد بن المسيب وذويه ، وعلقمة والأسود وطبقتهما ، وعطاء وطاووس ومجاهد والحسن وابن سيرين والنخعي [ ص: 76 ] والزهري ومكحول ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني وابن عون ويونس بن عبيد ومالك والحمادين والسفيانين والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر بن الحارث .

فإن قلتم : مرادنا لا نسلم أن المعتبرين من المحدثين حرموا على المتكلم المعتبر أن يتأول ، بمعنى أنهم لم يمنعوه من جنس التأويل ، لا أنهم لم يمنعوه من التأويل المعين ، لكن سوغوا له أن يتأول ، كما يسوغ للمفتي أن يفتي وللقاضي أن يقضي ، وإن كان يخالف في بعض أقضيته وفتاويه ، كذلك المتأول قد يخالف في بعض تأويلاته ، وإن لم يكن ممنوعا من جنسها .

قلنا أولا : كلامكم يخالف هذا ، لأنكم قلتم : إن نقل ما ظاهره المنع من التأويل حملناه على التأويل بغير دليل أو على غير القواعد الكلية ، ومعلوم أن كل من تأول تأويلا من المشاهير وقد رده عليه غيره فإنما تأوله بدليل من عنده ، وعلى القواعد العلمية عنده ، بل يقيم الأدلة التي يزعم أنها قاطعة في وجوب ذلك التأويل وامتناع الإقرار على الظاهر ، مع مخالفة جماهير علماء القبلة وقطعهم بأنه ضال أو مخطئ في تأويله ، ولعل كثيرا منهم أو أكثرهم أو كلهم قد يكفرونه بذلك التأويل ، كما يكفرون نفاة حشر الأجساد ، وإن تأولوا ما جاءت به الرسل لأدلة ادعوها وعلى قواعد وضعوها .

وأعجب من هذا -ولا عجب- قولكم : "توفيقا بين العلماء وصيانة لهم من تخطئة بعضهم" ، فهل إلى هذا من سبيل؟ وقد علم بالاضطرار اختلاف أهل القبلة في كثير من تأويل الآيات والأحاديث : هل تصرف عن ظاهرها أم تقر على ظاهرها؟ وإذا صرفت فهل تصرف [ ص: 77 ] إلى كذا أم إلى كذا؟ بل الكتب والنقول مشحونة بتكفير بعض المتأولين فضلا عن تخطئته . وأما تخطئة بعض المتأولين فهذا أمر معلوم بالاضطرار في الأصول والفروع والتفسير والحديث والشعر واللغة وغير ذلك ، بل عامة الاختلاف بين أهل القبلة إنما هو من تخطئة بعضهم في فهمه للكتاب والسنة وتأويلهما على وجه يخالفه فيه الباقون .

التالي السابق


الخدمات العلمية