الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 493 ] فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين .

[97] فيه آيات بينات ثم بين الآيات فقال:

مقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلى خلفه ركعتا الطواف، وهو الذي قام عليه إبراهيم وقت رفعه القواعد من البيت لما طال البناء، فكان كلما علا الجدار، ارتفع به الحجر في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه، وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار، وكان أثر قدميه فيه، فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، ومن تلك الآيات الحجر الأسود، والحطيم، وزمزم، والمشاعر كلها، ومنها أن الطير يطير فلا يعلو فوقه، وقد شاهدت ذلك عيانا.

ومن دخله كان آمنا من أن يهاج فيه; لدعاء إبراهيم عليه السلام: رب اجعل هذا البلد آمنا [إبراهيم: 35] ، والضمير في قوله: ومن دخله عائد على البيت في قول الجمهور، ويفهم من معناه أن من دخل الحرم، فهو في الأمن; لأنه جزء من البيت إذ هو لسببه ولحرمته.

واختلف الأئمة رضي الله عنهم في الجاني الملتجئ للحرم، فقال مالك والشافعي : يقتص منه في الحرم، وقال أبو حنيفة وأحمد : إن جنى في الحرم، اقتص منه، وإن جنى خارج الحرم، ثم لجأ إليه، لم يقتص منه، لكن يضيق عليه بترك البيع والشراء حتى يخرج إلى الحل، فيقام حينئذ.

وأما الكلام في قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس فقد روى المحدثون عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قال: قلت: ثم أي؟ قال: [ ص: 494 ]

"المسجد الأقصى"، قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله; فإن الفضل فيه".


وقد روي أن الملائكة بنوا المسجد الحرام قبل خلق آدم بألفي عام، فكانوا يحجونه.

قال الإمام أبو العباس القرطبي: يجوز أن يكون بناه يعني: مسجد بيت المقدس الملائكة بعد بنائها البيت بإذن الله تعالى.

وقد روي أن أول من بنى مسجد بيت المقدس وأري موضعه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، روي أن أباه إسحاق أمره ألا ينكح امرأة من الكنعانيين، وأمره أن ينكح من بنات خاله، وكان مسكن يعقوب بالقدس، فلما توجه إلى خاله لينكح ابنته، أدركه الليل في بعض الطريق، فبات متوسدا حجرا، فرأى فيما يرى النائم أن سلما منصوبا إلى باب من أبواب السماء، والملائكة تعرج فيه وتنزل، فأوحى الله تعالى إليه: إني إلهك وإله أبيك إبراهيم، وقد ورثتك هذه الأرض المقدسة لك ولذريتك من بعدك، وباركت فيك وفيهم، وجعلت لكم الكتاب والحكم والنبوة، ثم أنا معك أحفظك حتى أردك إلى هذا المكان، فاجعله بيتا تعبدني فيه أنت وذريتك.

وقد تأول بعض العلماء معنى الحديث الشريف الوارد أن بناء المسجد [ ص: 495 ] الأقصى كان بعد بناء المسجد الحرام بأربعين سنة على أن المراد بناء يعقوب عليه السلام لمسجد بيت المقدس بعد بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة الشريفة، والله أعلم.

وأما بناء داود وسليمان عليهما السلام لمسجد بيت المقدس، فإنه بعد ذلك بأزمنة متطاولة على أساس قديم، فهما مجددان لا مؤسسان.

ولله فرض واجب.

على الناس حج البيت قرأ أبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف : (حج) بكسر الحاء، والباقون: بالفتح، وهي لغة أهل الحجاز، وهما لغتان فصيحتان معناهما واحد.

والحج أحد أركان الإسلام، قال - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان".

من استطاع إليه سبيلا والاستطاعة: القدرة بالمال والبدن، فمن وجد الزاد والراحلة ونفقة العيال قدر الذهاب والرجوع، مع التمكن، وجب [ ص: 496 ] الحج عليه بالاتفاق، فعند أبي حنيفة وأحمد يجب على الفور، وعند الشافعي ومالك يجب على التراخي، وقيد مالك بما إذا لم يخش الفوت، وعند مالك فقط يجب على الفقير القادر على المشي، فلو تكلف غير القادر فحج، سقط عنه الفرض بالاتفاق، والمرأة كالرجل، واختلفوا في شرط آخر في حقها، وهو وجود المحرم، فقال أبو حنيفة وأحمد : يشترط، وهو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح; كرضاع ومصاهرة، وقال مالك والشافعي : لا يشترط إذا وجدت رفقة مأمونين، قال مالك : رجال أو نساء، وقال الشافعي : نساء ثقات.

ومن كفر جحد فرض الحج.

فإن الله غني عن العالمين في الحديث: "من أمكنه الحج فلم يحج، فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا".

التالي السابق


الخدمات العلمية