الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 313 ] وبهدم بناء بطريق ، ولو لم يضر

[ ص: 313 ]

التالي السابق


[ ص: 313 ] و ) قضي ( بهدم بناء بطريق ) عام للمسلمين إن أضر المارين اتفاقا ، بل ( ولو لم يضر ) البناء المارين لاتساع الطريق جدا على المشهور ، وأشار بولو إلى القول بعدم هدمه إن لم يضر ، والخلاف إنما هو بعد الوقوع . وأما ابتداء فلا يجوز بلا خلاف . في العتبية من سماع زونان سألته عن الرجل يتزيد في داره من طريق المسلمين ذراعا أو ذراعين فيبني به جدارا وينفق عليه ويجعله بيتا فيقوم عليه جاره الذي هو مقابله من جانب الطريق الآخر ، فأنكر عليه ما تزيد ورفعه إلى السلطان ، وأراد أن يهدم ما تزيد من الطريق وزعم أن سعة الطريق كان رفقا به لأنه كان فناء له ومربطا لدابته وفي بقية الطريق ممر للناس ، وكان فيما بقي من سعة الطريق ثمانية أذرع أو تسعة فهل لذلك القائم إلى هدم بنيان جاره سبيل ؟ أو رفع ذلك بعض من كان يسلك تلك الطريق وفي بقية سعته ما قد أعلمتك ؟ فقال يهدم ما بني كان في سعة الطريق ثمانية أذرع أو تسعة ، إذ لا ينبغي التزيد من طريق المسلمين ، وينبغي للقاضي أن يتقدم في ذلك إلى الناس ويستنهي إليهم أن لا يحدث أحد بنيانا في طريق المسلمين .

وذكر أن عثمان بن الحكم الحذامي حدثه عن عبيد الله بن عمر عن أبي حازم أن حدادا ابتنى كيرا في سوق المسلمين فمر عمر بن الخطاب " رضي الله عنه " فرآه فقال لقد استنقصتم السوق ، ثم أمر به فهدمه . أشهب يأمر السلطان بهدمه رفع إليه ذلك من يسلكه أو غيره من جيرانه ، إذ لا ينبغي لأحد التزيد من طريق المسلمين ، سواء كان في الطريق سعة ولم يكن مضرا له ما تزيد أو لم يكن ، وينبغي للسلطان أن يتقدم إلى الناس في ذلك أن لا يتزيد أحد من طريق المسلمين .

ابن رشد اتفق مالك وأصحابه فيما علمت أنه لا يجوز أن يقتطع أحد من طريق المسلمين شيئا فيزيده في داره ويدخله في بنيانه ، وإن كان الطريق واسعا جدا لا يضره ما اقتطع منه ، واختلفوا إن تزيد في داره من الطريق الواسعة ما لا يضر بها ولا يضيقها على المارة فيها فقال ابن وهب وأشهب يهدم عليه ما تزيد من الطريق ، وتعاد إلى حالها ، وهو قول مالك " رضي الله عنه " في رواية ابن وهب عن . [ ص: 314 ]

وقول مطرف وابن الماجشون في الأبرحة يبنيها الرجل في الطريق ملصقة بجداره اختيارا . ابن حبيب على ظاهر ما جاء عن عمر " رضي الله عنه " في الكير الذي ابتني بالسوق فأمر به فهدم ، ووجه هذا قول أن الطريق حق لجميع المسلمين كالحبس ، فوجب أن يهدم على الرجل ما تزيده في داره منها كما يهدم عليه بما تزيد من أرض محبسة على طائفة من المسلمين أو من ملك لرجل بعينه . وقيل إنه لا يهدم عليه ما تزيد من الطريق إذا كان لا يضر بها لسعتها لما له من الحق فيه ، إذ هو فناؤه له الانتفاع به وكراؤه .

والأصل في ذلك ما جاء من أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قضى بالأفنية لأرباب الدور وأفنيتها ما أحاط بها من جميع نواحيها ، فلما كان مختصا بالانتفاع به من غيره ولم يكن لأحد أن ينتفع بها إلا إذا استغنى هو عنه وجب أن لا يهدم عليه بنيانه فيذهب ماله هدرا ، وهو أعظم الناس حقا في ذلك الموضع ، بل لا حق لأحد معه فيه إذا احتاج إليه ، فكيف إذا لم يصل إلى أخذه منه مع حاجته إليه إلا بهدم بنيانه وتلف ماله ، وهذا بين لا سيما من أهل العلم من أباح له ذلك ابتداء .

في المجموعة من رواية ابن وهب عن ابن سمعان عمن أدركه من العلماء قالوا في الطريق أراد أهلها بنيان عرصتها أن الأقربين إليها يقتطعونها على قدر ما شرع فيها من رباعهم بالحصص ، فيعطى صاحب الربع الواسع بقدره ، وصاحب الصغير بقدره ، ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع احتياطا ليستوفي منها السبعة المذكورة في الحديث على زيادة الذراع ونقصانه ، وهذا القول الثاني أظهر ، والقائلون به أكثر ، وكل مجتهد مصيب ، وقد نزلت بقرطبة قديما فأفتى ابن لبابة وأبو صالح ومحمد بن وليد بأنه لا يهدم ما تزيده من الطريق إذ لم يضر بها ، وأفتى عبد الله بن يحيى ويحيى بن عبد العزيز وسعيد بن معاذ وأحمد بن مطير بهدم ما تزيد منه على كل حال وبالله التوفيق . وما استظهره ابن رشد من أنه لا يهدم ما تزيد من الطريق إذا كان لا يضر به ، أفتى به أيضا في نوازله ، ورجحه في سؤال كتب به إليه عياض عمن بنى حائطا في بطن [ ص: 315 ] واد وقد كان حائط دون ذلك فأجابه إن كان الحائط الذي بناه يضر بالطريق أو بجاره فيهدم وإن كان الحائط لا يضر بالطريق ولا بجاره فلا يهدم .

وهذا على القول بأن من تزيد من طريق المسلمين في داره ما لا يضر بالطريق لا يهدم بنيانه ، والذي يترجح عندي من القولين أنه لا يهدم عليه بنيانه إذا لم يضر بالطريق لما له من الحق فيه ، وهو الذي أقول به في هذه المسألة ، لا سيما من أهل العلم من أباح له ذلك ابتداء . أصبغ وسألت أشهب عن رجل تهدم داره وله فناء واسع فيزيد فيها منه يدخله بنيانه ثم يعلم ذلك فقال لا يعرض له إذا كان الفناء واسعا رحراحا لا يضر الطريق ، وقد كرهه مالك وأنا أكرهه ولا آمره به ولا أقضي عليه بهدمه إذا كان الطريق واسعا رحراحا لا يضر ذلك بشيء منه ولا يحتاج إليه ولا يقاربه المشي ، ثم قال الحطاب بعد كلام طويل يحصل من هذا ما تقدم في كلام ابن رشد أنه اتفق مالك وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أنه لا يجوز لأحد ابتداء أن يقطع من الطريق شيئا ويدخله في بنيانه وإن كان الطريق واسعا جدا لا يضره ما اقتطع منه ، فإن اقتطع شيئا منه وأدخله في بنيانه ، فإن كان مما يضر بها ويضيقها على المارة فيهدم عليه ما تزيد منها وتعاد لحالها بلا خلاف وإن كان مما لا يضر بها ولا يضيقها على المارة ففيه قولان ، الأول : يهدم ما تزيد منها وتعاد لحالها وهو الذي شهره المصنف والثاني : لا يهدم ، واستظهره ابن رشد في البيان ، ورجحه في نوازله ، وأشار له المصنف بولو لم يضر والله أعلم ، وقول ابن رشد من أهل العلم من أباح ذلك له ابتداء لا ينافي قوله اتفق مالك وأصحابه أنه لا يجوز لأحد ابتداء لأنه أراد من أهل العلم الخارجين عن مذهب مالك والله أعلم .




الخدمات العلمية