الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أخبرنا الحسن بن سفيان ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن الحكم بن عبد الله قال " كانت العرب تقول: العقل التجارب، والحزم سوء الظن ".

قال أبو حاتم: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب.

والعاقل يكون حسن المأخذ في صغره، صحيح الاعتبار في صباه، حسن العفة عند إدراكه، رضي الشمائل في شبابه، ذا الرأي والحزم في كهولته يضع نفسه دون غايته برتوة. ثم يجعل لنفسه غاية يقف عندها، لأن من جاوز الغاية في كل شيء صار إلى النقص.

ولا ينفع العقل إلا بالاستعمال، كما لا تنفع الأعوان إلا عند الفرصة، ولا ينفع الرأي إلا بالانتخال، كما لا تتم الفرصة إلا بحضور الأعوان.

ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه أخاف أن يكون حتفه في أقرب الأشياء إليه.

[ ص: 23 ] ورأس العقل: المعرفة بما يمكن كونه قبل أن يكون.

والواجب على العاقل أن يجتنب أشياء ثلاثة، فإنها أسرع في إفساد العقل من النار في يبيس العوسج: الاستغراق في الضحك، وكثرة التمني، وسوء التثبت: لأن العاقل لا يتكلف ما لا يطيق، ولا يسعى إلا لما يدرك، ولا يعد إلا بما يقدر عليه، ولا ينفق إلا بقدر ما يستفيد، ولا يطلب من الجزاء إلا بقدر ما عنده من الغناء ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عليه نفعة منه.

والعاقل يبذل لصديقه نفسه وماله، ولمعرفته رفده ومحضره، ولعدوه عدله وبره، وللعامة بشره وتحيته، ولا يستعين إلا بمن يحب أن يظفر بحاجته، ولا يحدث إلا من يرى حديثه مغنما، إلا أن يغلبه الاضطرار عليه، ولا يدعي ما يحسن من العلم، لأن فضائل الرجال ليست ما ادعوها ولكن ما نسبها الناس إليهم، ولا يبالي ما فاته من حطام الدنيا، مع ما رزق من الحظ في العقل.

أنشدني عبد الرحمن بن محمد المقاتلي :


فمن كان ذا عقل، ولم يك ذا غنى يكون كذي رجل، وليست له نعل     ومن كان ذا مال، ولم يك ذا حجى
يكون كذي نعل، وليست له رجل



قال أبو حاتم: كفى بالعاقل فضلا وإن عدم المال: بأن تصرف مساوي أعماله إلى المحاسن، فتجعل البلادة منه حلما، والمكر عقلا، والهذر بلاغة، والحدة ذكاء، والعي صمتا، والعقوبة تأديبا، والجرأة عزما، والجبن تأنيا، والإسراف جودا، والإمساك تقديرا، فلا تكاد ترى عاقلا إلا موقرا للرؤساء، ناصحا للأقران، مواتيا للإخوان، متحرزا من الأعداء، غير حاسد للأصحاب، ولا مخادع للأحباب، ولا يتحرش بالأشرار، ولا يبخل في الغنى، ولا يشره في الفاقة، ولا ينقاد للهوى، ولا يجمح في الغضب، ولا يمرح في الولاية، ولا يتمنى ما لا يجد، ولا يكتنز إذا وجد، ولا يدخل في دعوى، ولا يشارك في مراء، [ ص: 24 ] ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضيا، ولا يشكو الوجع إلا عند من يرجو عنده البرء، ولا يمدح أحدا إلا بما فيه; لأن من مدح رجلا بما ليس فيه فقد بالغ في هجائه، ومن قبل المدح بما لم يفعله فقد استهدف للسخرية.

والعاقل يكرم على غير مال كالأسد يهاب وإن كان رابضا.

وكلام العاقل يعتدل كاعتدال جسد الصحيح، وكلام الجاهل يتناقض كاختلاط جسد المريض.

وكلام العاقل وإن كان نزرا حظوة عظيمة، كما أن مقارفة المأثم وإن كان نزرا مصيبة جليلة.

ومن العقل التثبت في كل عمل قبل الدخول فيه.

وآفة العقل العجب، بل على العاقل أن يوطن نفسه على الصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء، فإن ذلك مما لا يخطيه على ممر الأيام.

ولا يجب للعاقل أن يحب أن يسمى به، لأن من عرف بالدهاء حذر، ومن عقل العاقل دفن عقله ما استطاع، لأن البذر وإن خفي في الأرض أياما فإنه لا بد ظاهر في أوانه، وكذلك العاقل لا يخفى عقله وإن أخفى ذلك جهده.

وأول تمكن المرء من مكارم الأخلاق هو لزوم العقل.

أنشدني علي بن محمد البسامي :


إن المكارم أبواب مصنفة     فالعقل أولها والصمت ثانيها
والعلم ثالثها، والحلم رابعها،     والجود خامسها، والصدق ساديها
والصبر سابعها، والشكر ثامنها     واللين تاسعها، والصدق عاشيها



التالي السابق


الخدمات العلمية