الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4521 ص: واحتجوا في دفع حديث فاطمة بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا عمار بن رزيق ، عن أبي إسحاق قال: "كنت عند الأسود بن يزيد في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، ، فذكروا المطلقة ثلاثا، فقال الشعبي: : حدثتني فاطمة بنت قيس أن رسول الله -عليه السلام- قال لها: لا سكنى لك ولا نفقة. قال: فرماه الأسود بحصاة، فقال: ويلك، أتحدث بمثل هذا؟! قد رفع ذلك إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: لسنا بتاركي كتاب ربنا وسنة نبينا -عليه السلام- بقول امرأة لا ندري لعلها كذبت، قال الله تعالى: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا الآية". .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج الذين قالوا: المطلقة -أي مطلقة كانت- لها النفقة والسكنى في دفع حديث فاطمة بنت قيس بحديث الأسود بن يزيد بن قيس النخعي ، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي الزبيري الكوفي، قال [ ص: 111 ] العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو زرعة وابن خراش: صدوق، روى له الجماعة، عن عمار بن رزيق -بتقديم الراء على الزاي المعجمة- الضبي التميمي أبي الأحوص الكوفي، قال يحيى وأبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم والنسائي: لا بأس به. روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن الأسود بن يزيد روى له الجماعة.

                                                والشعبي اسمه عامر بن شراحيل .

                                                وأخرجه مسلم : نا محمد بن عمرو بن جبلة، قال: نا أبو أحمد ، قال: نا عمار بن رزيق ، عن أبي إسحاق قال: "كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله -عليه السلام- لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك، تحدث بمثل هذا؟! قال عمر: لا نترك كتاب الله تعالى وسنة نبينا -عليه السلام- لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ".

                                                وأخرجه أبو داود : نا نصر بن علي، قال: أنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا عمار بن رزيق ، عن أبي إسحاق قال: "كنت في المسجد الجامع مع الأسود، فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم لا؟ ".

                                                وأخرجه النسائي : أنا أبو بكر بن إسحاق، نا أبو الجواب الأحوص بن جواب، نا عمار -هو ابن رزيق- عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ... فذكر [ ص: 112 ] الحديث: "فحصبه الأسود، وقال: ويلك، لم تفتي بمثل هذا؟! قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة، لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " انتهى.

                                                وهذا صريح إنكار من عمر بن الخطاب بحضرة من أصحاب رسول الله -عليه السلام- فلم ينكر ذلك عليه منكر؛ فدل ذلك أن مذهبهم في ذلك كمذهبه، وكذلك أنكره من الصحابة أسامة بن زيد، وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهم- وكذا أنكره من التابعين سعيد بن المسيب والأسود بن عبد الرحمن وغيرهم -على ما يجيء مفصلا إن شاء الله تعالى.

                                                فقد ظهر من هؤلاء السلف النكير على فاطمة في روايتها لهذا الحديث، ومعلوم أنهم كانوا لا ينكرون روايات الأفراد بالنظر والقياس، فلولا أنهم قد علموا خلافه من سنة النبي -عليه السلام- ومن ظاهر الكتاب لما أنكروه عليها، وقد استفاض خبر فاطمة في الصحابة، فلم يعمل به أحد منهم إلا شيئا روي عن ابن عباس؛ رواه الحجاج بن أرطاة ، عن عطاء، عن ابن عباس: "أنه كان يقول في المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها: لا نفقة لهما وتعتدان حيث شاءتا" .

                                                فإن قيل: قال البيهقي : روى هذا الحديث يحيى بن آدم عن عمار بن رزيق، ولم يقل فيه: "وسنة نبينا" ثم حكى عن الدارقطني أن يحيى بن آدم أحفظ من الزبيري وأثبت منه، ثم قال: قال الشافعي -رحمه الله-: ما نعلم في كتاب الله ذكر نفقة، إنما في كتاب الله ذكر السكنى.

                                                قلت: لا معارضة بين رواية يحيى بن آدم وبين رواية الزبيري حتى يرجح يحيى عليه؛ لأن الزبيري ما خالفه بل وافقه وزاد عليه قوله: "وسنة نبينا" وهو إمام [ ص: 113 ] حافظ، قال محمد بن بشار: ما رأيت رجلا أحفظ من الزبيري. فهذه زيادة من ثقة فوجب أن تقبل.

                                                وقال مسلم عقيب حديث الزبيري: ثنا أحمد بن عبدة، ثنا أبو داود، ثنا سليمان بن معاذ ، عن أبي إسحاق بهذا الإسناد نحو حديث أبي أحمد عن عمار بن رزيق بقصته.

                                                فهذا شاهد لحديث الزبيري .

                                                وأيضا فالحديث رواه أشعث ، عن الحكم ، وحماد عن إبراهيم عن الأسود ، عن عمر نحوه.

                                                فرواية أشعث هذا تشهد له أيضا وهو يصلح للمتابعة؛ لأن العجلي وثقه، ووثقه ابن معين في رواية، وروى له مسلم في المتابعات. وأخرج له ابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه".

                                                وتشهد له أيضا ثلاثة أوجه: وجهان أخرجهما ابن أبي شيبة : ثنا وكيع، نا جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "لا ندع كتاب ربنا وسنة رسوله لقولة امرأة". وقال أيضا : ثنا جرير ، عن مغيرة: ذكرت لإبراهيم حديث فاطمة، فقال: قال عمر -رضي الله عنه- "لا ندع كتاب ربنا وسنة رسوله لقول امرأة، لا ندري حفظت أو نسيت، وكان عمر -رضي الله عنه- يجعل لها السكنى والنفقة".

                                                والوجه الثالث: أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" : عن الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس قالت: "طلقني زوجي ثلاثا، فجئت إلى [ ص: 114 ] النبي -عليه السلام- فسألته، فقال: لا نفقة لك ولا سكنى، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا، لها النفقة والسكنى. قال فذكرت ذلك لإبراهيم".

                                                وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" : أنا أبو خليفة، نا محمد بن كثير العبدي، أنا الثوري ... فذكره.

                                                وإذا ثبت هذه الزيادة وهي قوله: "وسنة نبينا". وهي حديث مرفوع عندهم فالظاهر إنما أراد بسنة نبينا: النفقة، وأراد بالكتاب: السكنى، وأما نقله عن الشافعي: "ما نعلم في كتاب الله ذكر نفقة" غير مسلم؛ لأن قوله تعالى: ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن إيجاب للنفقة؛ لأنها إذا حبست لحقه ولم ينفق عليها فقد ضارها وضيق عليها.

                                                فإن قيل: المراد إيجاب السكنى؛ إذ التضييق إنما هو في المكان.

                                                قلت: هذا حمل الكلام على التكرار إذ السكنى مذكورة أولا بقوله تعالى: أسكنوهن من حيث سكنتم وفيما قلنا إثبات فائدة أخرى؛ ولأن منع النفقة تضييق، ومنع السكنى ليس بتضييق؛ إذ الواجب أن تقيم في مكان واحد، فإذا منعها منه تقيم حيث شاءت وذلك توسعة. ذكره القدوري في "التجريد"، وقد تكلم ابن حزم ها هنا كلاما ساقطا ليس فيه شيء حتى يجاب عنه.




                                                الخدمات العلمية