الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5644 ص: فإن قال قائل: فكيف قصد بالنهي في ذلك إلى الطعام بعينه ولم يعم الأشياء؟!

                                                قيل له: قد وجدنا مثل هذا في القرآن، قال الله -عز وجل- لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فأوجب عليه الجزاء المذكور في الآية، ولم يختلف أهل العلم في قاتل الصيد خطأ أن عليه مثل ذلك، وأن ذكره العمد لا ينفي الخطأ، فكذلك ذكره الطعام في النهي عن بيعه قبل القبض لا ينفي غير الطعام، وقد رأينا الطعام يجوز فيه السلم، ولا يجوز السلم في العروض، فكان الطعام أوسع أمرا في البيوع من غير الطعام؛ لأن الطعام يجوز السلم فيه وإن لم يكن عند المسلم إليه، [ ص: 550 ] ولا يكون ذلك في غيره، فلما كان الطعام أوسع أمرا في البيوع، وأكثر جوازا، ورأيناه قد نهى عن بيعه حتى يقبض، كان ذلك فيما لا يجوز السلم فيه أحرى أن لا يجوز بيعه حتى يقبض، فقصد رسول الله -عليه السلام- بالنهي الذي إذا نهى عنه دل نهيه على نهيه عن غيره، وأغناه ذكره له، عن ذكره لغيره، فقام ذلك مقام النهي إلى الذي لو عم به الأشياء كلها.

                                                ولو قصد بالنهي إلى غير الطعام أشكل حكم الطعام في ذلك على السامع، فلم يدر هل هو كذلك أم لا؟ لأنه قد يجد الطعام يجوز السلم فيه، وليس هو بقائم حينئذ، وليس يجوز ذلك في العروض، فيقول: كما خالف الطعام العروض في جواز السلم فيه، وليس عند المسلم إليه، وليس ذلك في العروض، فكذلك يحتمل أن يكون مخالفا له في جواز بيعه قبل أن يقبض، وإن كان ذلك غير جائز في العروض.

                                                فهذا هو المعنى الذي له قصد النبي -عليه السلام- بالنهي عن بيع ما لم يقبض إلى الطعام خاصة.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم ادعيتم أن النهي المذكور في الأحاديث المتقدمة وقع على الطعام وغيره، وإن كان النهي فيها عن الطعام خاصة، ولو كان المراد هذا لم يكن النبي -عليه السلام- يقصد بالنهي إلى الطعام بعينه، ولكان يذكر شيئا يعم الأشياء كلها، فلما لم يعم الأشياء، وقصد بالنهي إلى الطعام؛ دل أن غير الطعام يخالف الطعام فيه، فافهم.

                                                وتقرير الجواب ما ذكره بقوله: "قيل له .... " إلى آخره، ملخصه أن تعيين الطعام بالذكر من قبيل تعيين العمد بالذكر في قوله تعالي: ومن قتله منكم متعمدا فإنهم اتفقوا على أن ذكر العمد في الآية ليس بقيد، بل حكم الخطأ فيه كالعمد، فكذلك الطعام ها هنا ليس بقيد، بل غير الطعام فيه كالطعام.

                                                [ ص: 551 ] فإن قيل: قد ذكروا أن نزول الآية في العمد، وألحقوا به الخطأ والنسيان تغليظا، وها هنا كيف يلحق غير الطعام بالطعام؟

                                                قلت: لما كان النهي عن بيع الطعام قبل قبضه معللا بأن فيه غرر انفساخ البيع، فهذا المعنى يوجد في غير الطعام أيضا، فيلحق به، مع ما جاء من الآثار الدالة على بيع الطعام وغيره كما تقدم ذكره.

                                                فإن قيل: لا يجوز عندكم إثبات الكفارات قياسا، وليس في المخطئ نص في إيجاب الجزاء، فكيف توجبون عليه الكفارة كالعامد؟!

                                                قلت: ليس هذا قياسا بل بالنص؛ لأنه لما استوى حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام، كان مقصودا في ظاهر النهي بتساوي حال العامد والمخطئ، وليس ذلك قياسا، كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي -عليه السلام- في بريرة ليس بقياس، وكذلك حكمنا في العصفور بحكم الفأرة، وحكم الزيت بحكم السمن إذا مات فيه، ليس هو قياسا على الفأرة والسمن؛ لأنه قد ثبت تساوي ذلك قبل ورود الحكم بما وصفنا، فإذا ورد في شيء منه كان حكما في جميعه.

                                                قوله: "وقد رأينا الطعام ... " إلى آخره دليل آخر يلحق غير الطعام بالطعام تأكيدا لما ذكره من الجواب، وهو ظاهر.

                                                قوله: "ولا يجوز السلم في العروض" ليس على الإطلاق ففي العروض التي يمكن ضبط صفتها ومعرفة مقدارها يجوز السلم فيها، كما عرف في موضعه.




                                                الخدمات العلمية