الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4604 ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: أن أولى الأشياء بنا إذا جاءت الآثار هكذا فوجدنا السبيل إلى أن نحملها على غير التضاد أن نحملها على ذلك ولا نحملها على التضاد والتكاذب، ويكون حال رواتها عندنا على الصدق والعدالة فيما رووا حتى لا نجد بدا من أن نحملها على خلاف ذلك.

                                                فلما ثبت أن ما ذكرنا كذلك، وكان زوج بريرة قد قيل فيه: إنه كان عبدا في حال، حرا في حال أخرى، فثبت بذلك تأخر إحدى الحالتين عن الأخرى، فكان الرق قد تكون بعده الحرية، والحرية لا يكون بعدها رق، فلما كان ذلك كذلك جعلنا حال العبودية متقدما، وحال الحرية متأخرا فثبت بذلك أنه كان حرا في وقت ما خيرت بريرة، ، عبدا قبل ذلك.

                                                هكذا تصحيح الآثار في هذا الباب، ولو اتفقت الروايات كلها على أنه كان عبدا لما كان في ذلك ما ينفي أن يكون إذا كان حرا زال حكمه عن ذلك؛ لأنه لم يجئ عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: إنما خيرتها لأن زوجها عبد، ولو كان ذلك كذلك لانتفى أن يكون لها خيار إذا كان زوجها حرا، فلما لم يجئ من ذلك شيء، وجاء عنه أنه خيرها وكان زوجها عبدا نظرنا هل يفترق في ذلك حكم الحر وحكم العبد؟

                                                فنظرنا في ذلك فرأينا الأمة في حال رقها، لمولاها أن يعقد النكاح عليها للحر والعبد، ورأيناها بعدما تعتق ليس له أن يستأنف عليها عقد نكاح لحر ولا لعبد، فاستوى حكم ما إلى المولى في العبيد والأحرار، وما ليس إليه في العبيد والأحرار، فلما كان ذلك كذلك، ورأيناها إذا أعتقت بعد عقد مولاها نكاح العبد عليها يكون لها الخيار في حل النكاح عنها، كان كذلك في الحرة إذا أعتقت يكون لها حل نكاحه عنها قياسا ونظرا على ما بينا من ذلك.

                                                وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ، -رحمهم الله-.

                                                [ ص: 209 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 209 ] ش: أي فكان من الحجة والبرهان على أهل المقالة الثانية، وأراد بها الجواب على احتجاجهم في تحقيق ما رووه في زوج بريرة أنه كان عبدا بحديث ابن عباس .

                                                تقرير ذلك أن يقال: احتجاجكم بهذه الطريقة فاسد؛ لأنكم تحققون الخبر الذي فيه أن زوج بريرة كان عبدا، وتهملون الخبر الذي فيه أنه كان حرا، مع أن كلا الخبرين صحيح، فهذا ليس من شرط الاحتجاج، بل الوجه في مثل هذا الموضع أن تحمل هذه الآثار التي تجيء متعارضة على وجه لا يكون فيه التضاد ولا التخالف، وهذا هو الواجب؛ لما في ذلك من حمل الآثار على التعادل والتوافق، وحمل حال رواتها على الصدق والعدالة فيما رووا من ذلك.

                                                فإذا ثبت هذا فنقول: قد اختلف في زوج بريرة فقيل: كان عبدا، وقيل: كان حرا، وهاتان صفتان لا تجتمعان في حالة واحدة، فنجعلهما في حالتين، بمعنى أنه كان عبدا في حالة، حرا في حالة أخرى، فبالضرورة تكون إحدى الحالتين متأخرة عن الأخرى، وقد علم أن الرق تعقبه الحرية، والحرية لا يعقبها الرق، وهذا مما لا نزاع فيه، فإذا كان كذلك جعلنا حال العبودية متقدمة، وحال الحرية متأخرة؛ لما ذكرنا.

                                                فثبت بهذه الطريقة أنه كان حرا في الوقت الذي خيرت فيه بريرة، وعبدا قبل ذلك، فيكون قول من قال: "كان عبدا"، محمولا على الحالة المتقدمة، وقول من قال: "كان حرا"، محمولا على الحالة المتأخرة، فإذا لا يبقى تعارض ويثبت قول من قال: "إنه كان حرا" ويتعلق الحكم به.

                                                قوله: "ولو اتفقت الروايات كلها ... " إلى آخره. جواب آخر بطريق التسليم، يعني لو سلمنا أن جميع الروايات أخبرت بأن زوج بريرة كان عبدا فليس فيه ما يدل على صحة ما يذهبون إليه من أن زوج الأمة إذا كان حرا، فأعتقت الأمة، ليس لها الخيار؛ لأنه ليس فيه ما يدل على ذلك؛ لأنه لم يأت عنه -عليه السلام- أنه قال: إنما خيرتها [ ص: 210 ] لأن زوجها عبد، وهذا لا يوجد أصلا في الآثار، فثبت أنه إنما خيرها لكونها قد أعتقت، فحينئذ يستوي في ذلك أن يكون زوجها حرا أو عبدا. فافهم.

                                                وها هنا شيء آخر: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل ملكها بضعها علة لثبوت الخيار لها، حيث قال لها -على ما جاء في بعض الروايات-: "ملكت بضعك فاختاري" وفي رواية "نفسك" فأخبر أنها ملكت نفسها، ثم أعقبه بإثبات الخيار لها بحرف التعقيب، وملكها نفسها يؤثر في دفع الولاية في الجملة؛ لأن الملك اختصاص، والحكم إذا ذكر عقيب وصف له أثر في الجملة في جنس ذلك الحكم في الشرع؛ كان ذلك تعليقا لذلك الحكم بذلك الوصف كما في قوله: والسارق والسارقة فاقطعوا وقوله: الزانية والزاني فاجلدوا وروي أن ماعزا زنى فرجم، والحكم يتعمم بعموم العلة، ولا يتخصص بخصوص المحل كما في سائر العلل الشرعية والفعلية، فزوج بريرة -وإن كان عبدا- لكن النبي -عليه السلام- لما بنى الخيار فيه على معنى عام -وهو ملك البضع- يعتبر عموم المعنى لا خصوص المحل. فافهم.

                                                قوله: "فنظرنا في ذلك ... " إلى آخره. بيان وجه النظر والقياس في هذا الباب، وهو ظاهر.




                                                الخدمات العلمية