الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                            صفحة جزء
                                                                                            10241 وعن عروة قال : ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار ، وأسلم ، وغفار ، وجهينة ، وبني سليم ، وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران ، ولم تعلم بهم قريش ، وبعثوا بحكيم بن حزام ، وأبي سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : خذ لنا منه جوارا أو آذنوه بالحرب .

                                                                                            فخرج أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام فلقيا بديل بن ورقاء فاستصحباه حتى إذا كانا بالأراك من مكة - وذلك عشاء - رأوا الفساطيط والعسكر ، وسمعوا صهيل الخيل فراعهم ذلك وفزعوا منه .

                                                                                            وقالوا : هؤلاء بنو كعب حاشتهم الحرب ، فقال بديل : هؤلاء أكثر من بني كعب ما بلغ تأليبها هذا ، أفتنتجع هوازن أرضنا ؟ والله ما نعرف هذا أيضا ، إن هذا لمثل حاج الناس . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث بين يديه خيلا تقبض العيون ، وخزاعة على الطريق لا يتركون أحدا يمضي .

                                                                                            فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل ، وأتوا بهم خائفين القتل ، فقام عمر بن الخطاب إلى أبي سفيان فوجأه في عنقه ، والتزمه القوم وخرجوا به ليدخلوه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخاف القتل .

                                                                                            وكان [ ص: 171 ] العباس بن عبد المطلب خالصة له في الجاهلية ، فصاح بأعلى صوته : ألا تأمروا لي إلى عباس ؟ فأتاه عباس فدفع عنه ، وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبضه إليه ، ومشى في القوم مكانه ، فركب به عباس تحت الليل فسار به في عسكر القوم حتى أبصروه أجمع .

                                                                                            وقد كان عمر قد قال لأبي سفيان حين وجأ عنقه : والله لا تدنو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تموت .

                                                                                            فاستغاث بعباس ، فقال : إني مقتول . فمنعه من الناس أن ينتهبوه ، فلما رأى كثرة الناس وطاعتهم قال : لم أر كالليلة جمعا لقوم . فخلصه العباس من أيديهم ، وقال : إنك مقتول إن لم تسلم وتشهد أن محمدا رسول الله . فجعل يريد يقول الذي يأمره العباس فلا ينطلق لسانه ، فبات مع عباس .

                                                                                            وأما حكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء فدخلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما ، وجعل يستخبرهما عن أهل مكة .

                                                                                            فلما نودي بالصلاة - صلاة الصبح - تحسس القوم ، ففزع أبو سفيان ، فقال : يا عباس ، ماذا تريدون ؟ قال : هم المسلمون يتيسرون لحضور رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فخرج به عباس ، فلما أبصرهم أبو سفيان قال : يا عباس ، أما يأمرهم بشيء إلا فعلوه ؟ فقال عباس : لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه .

                                                                                            قال عباس : فكلمه في قومك هل عنده من عفو عنهم ؟ فأتى العباس بأبي سفيان حتى أدخله على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عباس : يا رسول الله ، هذا أبو سفيان ، فقال أبو سفيان : يا محمد ، إني قد استنصرت إلهي ، واستنصرت إلهك ، فوالله ما رأيتك إلا قد ظهرت علي ، فلو كان إلهي محقا وإلهك مبطلا لظهرت عليك . فشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .

                                                                                            فقال عباس : يا رسول الله ، إني أحب أن تأذن لي آتي قومك فأنذرهم ما نزل وأدعوهم إلى الله ورسوله . فأذن له ، فقالعباس : كيف أقول لهم يا رسول الله ؟ بين لي من ذلك أمانا يطمئنون إليه .

                                                                                            قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تقول لهم : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله فهو آمن ، ومن جلس عند الكعبة فوضع سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن " .

                                                                                            فقال عباس : يا رسول الله ، أبو سفيان ابن عمنا ، وأحب أن يرجع معي فلو اختصصته بمعروف ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " . فجعل أبو سفيان يستفقهه ، ودار أبي سفيان بأعلى مكة [ ص: 172 ] " ومن دخل دار حكيم بن حزام وكف يده فهو آمن " . ودار حكيم بأسفل مكة .

                                                                                            وحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - عباسا على بغلته البيضاء التي كان أهداها إليه دحية الكلبي ، فانطلق عباس بأبي سفيان قد أردفه . فلما سار عباس بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثره ، فقال : " أدركوا عباسا فردوه علي " .

                                                                                            وحدثهم بالذي خاف عليه فأدركه الرسول فكره عباس الرجوع وقال : أيرهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع أبو سفيان راغبا في قلة الناس فيكفر بعد إسلامه ؟ ، فقال : احبسه . فحبسه ، فقال أبو سفيان : أغدرا يا بني هاشم ، فقال عباس : إنا لسنا نغدر ، ولكن لي إليك بعض الحاجة ، قال : وما هي أقضيها لك ؟ قال : تفادها حين يقدم عليك خالد بن الوليد والزبير بن العوام ، فوقف عباس بالمضيق دون الأراك من مر ، وقد وعى أبو سفيان منه حديثه ، ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخيل بعضها على أثر بعض ، وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخيل شطرين فبعث الزبير ، وردفه خالد بن الوليد بالجيش من أسلم وغفار وقضاعة ، فقال أبو سفيان : رسول الله هذا يا عباس ؟ قال : لا ، ولكن خالد بن الوليد وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن عبادة بين يديه في كتيبة من الأنصار ، فقال : " اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة " .

                                                                                            ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبة الإيمان : المهاجرين والأنصار . فلما رأى أبو سفيان وجوها كثيرة لا يعرفها ، فقال : يا رسول الله ، أكثرت - أو : اخترت - هذه الوجوه على قومك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنت فعلت ذلك وقومك ، إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني ونصروني إذ أخرجتموني " .

                                                                                            ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ الأقرع بن حابس ، وعباس بن مرداس ، وعيينة بن حصن بن بدر الفزاري ، فلما أبصرهم حول النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من هؤلاء يا عباس ؟ قال : هذه كتيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع هذه الموت الأحمر ، هؤلاء المهاجرون والأنصار ، قال : امض يا عباس ، فلم أر كاليوم جنودا قط ولا جماعة .

                                                                                            فسار الزبير في الناس حتى وقف بالحجون ، واندفع خالد حتى دخل من أسفل مكة فلقيه أوباش بني بكر فقاتلوهم فهزمهم الله عز وجل ، وقتلوا بالحزورة حتى دخلوا [ ص: 173 ] الدور ، وارتفع طائفة منهم على الخيل على الخندمة ، واتبعه المسلمون فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات الناس ونادى مناد : " من أغلق عليه داره وكف يده فإنه آمن " .

                                                                                            ونادى أبو سفيان بمكة : أسلموا تسلموا ، وكفهم الله عز وجل عن عباس . وأقبلت هند بنت عتبة فأخذت بلحية أبي سفيان ثم نادت : يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق . قال : فأرسلي لحيتي ، فأقسم بالله إن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك ، ويلك جاء بالحق فادخلي أريكتك - أحسبه قال : - واسكتي
                                                                                            .

                                                                                            رواه الطبراني مرسلا ، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف .

                                                                                            التالي السابق


                                                                                            الخدمات العلمية