الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقسم رابع ينظرون إليه بعين الرغبة والحرص فيتأسفون على ما فاتهم منه ويفرحون بما حضرهم من جملته ويذمون منه ما لا يوافق هواهم ويعيبونه ويذمون فاعله فيذمون الطبيخ والطباخ ولا يعلمون أن الفاعل للطبيخ والطباخ ولقدرته ولعلمه هو الله تعالى وأن من ذم شيئا من خلق الله بغير إذن فقد ذم الله ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر فهذه المرابطة الثانية بمراقبة الأعمال على الدوام والاتصال وشرح ذلك يطول وفيما ذكرناه تنبيه على المنهاج لمن أحكم الأصول .

التالي السابق


(و ) منهم (قسم رابع ينظرون إليه بعين الرغبة والحرص فيتأسفون على ما فاتهم منه ويفرحون بما حضرهم من جملته ويذمون منه ما لا يوافق هواهم ويعيبونه ويذمون فاعله فيذمون الطبيخ والطباخ ولا يعلمون أن الفاعل للطبخ والطباخ ولقدرته ولعلمه هو الله تعالى ) وحده لا شريك له في فعله (وإن من ذم شيئا من خلق الله بغير إذن الله فقد ذم الله ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ) قال العراقي رواه مسلم من حديث أبي هريرة . اهـ .

قلت ورواه كذلك أحمد وعبد بن حميد والروياني والضياء من حديث أبي قتادة ورواه ابن عساكر من حديث جابر (فهذه المرابطة الثانية بمراقبة الأعمال على الدوام والاتصال وشرح ذلك يطول وفيما ذكرناه تنبيه على المنهاج لمن أحكم الأصول ) وحيث انتهى الكلام على هذه المرابطة بمراقبة الأعمال على الدوام فلنذكر تفصيل ما أورده مشايخ السادة النقشبندية قدس الله أرواحهم الزكية في هذا الباب فإنهم أحظى الناس بهذه المرابطة دون سائر أرباب السلوك .

اعلم أنهم قالوا إن المراقبة نسبة زكية وعبودة خفية فمن تحقق بها نور الله قلبه بنور المعرفة وشرح صدره بكشف الحقيقة فلم تخطئ فراسته ولم تبطئ مكاشفته وصح له التصريف في عالمي الملك والملكوت والتقريب في حضرة الجبروت وحسنت معاملته مع الله تعالى في جميع الحالات وتمت له عمارة الأوقات ولكونها أعظم العبادات كانت خواص الصحابة يشتغلون بدوامها في سائر الحالات وهي من الطرق الموصلة إلى المشاهدات وهي على ثلاثة أنواع الأول استدامة العلم باطلاع الحق عليه في جميع الأحوال مع مراعاة الاتباع بجميع الأحكام الثاني مطالعة أثمار الأسماء والصفات والمسارعة إلى الله بالوصول بجميع العبادات الثالث مكاشفة أسرار حقائق [ ص: 110 ] الأسماء والصفات ومشاهدة أنوار تجليات الذات وهذا النوع درجة الولاية الصغرى وهو غاية ما يبلغه السالكون بالمراقبة وفي هذه المراقبة يحصل له مقام الفناء في الفناء وتنتفي الحالات وتثبت المقامات وأما كيفية المراقبة فأن يكون السالك طاهر الظاهر والباطن والمكان حاضر القلب مع الله مرفوعا عن الوساوس والخيالات محفوظا عن سائر المشوشات يجلس مستقبل القبلة على ركبتيه غامض العينين متبرئا عن حوله وقوته ناسيا جميع علمه ومعرفته معطلا حواس ظاهره وقوى باطنه ثم يتوجه بالقلب المطلق مع الجذبة الإلهية إلى جناب ذات الحق على طريق الاستهلاك فيه حتى يزول عنه تزاحم الخواطر بالكلية وتغلب روحانيته على جسمانيته ولا ينفك عن هذه الحالة فإذا استقرت وكانت له كالصفة اللازمة أمكن له الاستقامة والتقرب بسائر الأعمال وفي مقام المراقبة حالة أخرى تسمى عندهم بالوقوف القلبي وهو عبارة عن التوجيه إلى حقيقة الروح الإنساني من جهة القلب لأن الروح الإنساني محيطة بجميع ما في الحضرة الربوبية إحاطة انطباعية مطابقة للوجود في نفس الأمر فمن توجه إلى روحه من قلبه فقد ينكشف له ما في حضرة الربوبية من الأسرار فيصل بذلك إلى معرفة ربه بالمعرفة الشهودية لأن حقيقة الروح الإنساني كالمرآة لتلك الحضرة لما فيه من القوة العقلية التي هي جوهر إلهي فمن كشف ذلك الجوهر رأى فيه جميع صفات الله وأسمائه وذاته تعالى بالانطباع الظلي ورأى فيه أيضا جميع الموجودات العقلية والحسية وكيفية الاشتغال بالوقوف القلبي أن يجرد السالك أولا عقله من جميع الإدراكات ثم يعطل جميع قواه وحواسه عن أحكامها ثم يسلخ نفسه عن الهيكل الجسماني وبعد ذلك يتوجه بالبصيرة إلى حقيقة القلب على طريق الاستغراق والاستهلاك ويداوم على ذلك فكلما يزداد توجهه إلى حقيقة القلب تزداد معرفته لنفسه وكلما تزداد معرفته لنفسه تزداد معرفته لربه سبحانه والحاصل أنه لا بد في هذه الصورة من التجرد عن الذوات الجسمانية ولواحقها ونحو العلوم الرسمية وملازمة التوجه إلى حقيقة القلب على الدوام ليتم له الانجلاء الروحاني الغير المقيد بشيء من عوارض الأجسام فيرى حقيقة قلبه في تلك الحالة نورا بسيطا محتويا بجميع ما كان وما يكون وصورة أخرى من الوقوف القلبي أن يتوجه السالك إلى دائرة قلبه بعد تجريده عن الشواغل ثم يلاحظ بدنه في وسط تلك الدائرة كالكرة ويخيل روحه نافذا من أقطار السموات والأرض ويستغرق في تلك الملاحظة على الدوام ويرجع إليها كلما يذهل عنها إلى أن يفنى عن ملاحظة تلك الكرة المفروضة ويتعطل جميع قواه وحواسه عن أحكامها فعند حصول هذه الحالة يظهر له أن روحه نوراني محض ويستهلك جميع ما في ضمن السموات والأرض في تلك النورانية حتى لا يبقى في الوجود في نظره غير روحه الذي هو الأمر الإلهي وبعد ذلك تستهلك نورانية الروح أيضا في نور الحق سبحانه لأن دائرة نور الروح متصلة بأفق نور الحق سبحانه ونور الحق غالب على جميع الأنوار وجميع الأنوار متلاش عند ظهور نور الحق كتلاشي سائر الأضواء عند ظهور ضوء الشمس فحينئذ لا يبقى في الظهور إلا نور الحق الذي هو الوجود المطلق جلت عظمته وهذا هو حقيقة الحقائق وصورة أخرى من الوقوف القلبي أن يتوجه السالك إلى قلبه ثم يتصور روحه في قلبه نورا محضا بلا نهاية ويتصور في حق روحه النور إلى صورة بدنه وصور العالم كالطير في الهواء ويتصور روحه محيطا بتلك الصورة وتلك الصور محاطة بذلك الروح وهو ينظر إلى تلك الصور في جو الروح ويستغرق في النظر إليها حتى يتحد بتلك الصور في التصور ويزداد في الاتحاد بتلك الصور بالتشوق إليها حتى يتخيل أنه تلك الصور ويداوم على ذلك التصور بالتكرار فيه حتى يكون كأنه هو الحقيقة النوعية الكلية لجميع العالم التي لا نهاية ولا انقسام لها بل يكون وحده صرفة بمجموع تلك الصور فمن جعل روحه متكيفا بهذه الكيفية عرف حقيقة روحه لأن حقائق العالم كلها منطوية في الروح الإنساني والروح الإنساني حاو عليها فمن عرف روحه بتلك الجمعية للحقائق كلها فقد عرف روحه وبه يتصل إلى معرفة ربه عز وجل وصورة أخرى من الوقوف القلبي أن يتوجه إلى قلبه بعد تجريد نفسه ويتصور فيه نورا بسيطا وحدانيا مجردا [ ص: 111 ] عن الكيفيات كلها غير متعلق بشيء ظاهر أعلى العالم الجسماني كظهور الشمس على الجسمانيات بالنسبة إلى ذلك النور البسيط كالذرة في شعاع الشمس ثم يعلق نظره بذلك النور البسيط ويداوم على ذلك النظر لذلك النور البسيط حتى يستغرق في ذلك النظر بحيث لا يبقى له شعور لغير ذلك النظر فعند ذلك يتجلى له نور الحق سبحانه لأن جميع الأنوار المجردة ينتهي إلى نور الحق سبحانه وصورة أخرى من الوقوف القلبي أن يتوجه إلى قلبه ويلاحظ فيه أن نظر الله محيط به من جميع الجهات ويجعل ذاته محاطة بنظر الله تعالى ويستمر على تلك الملاحظة وبهذا الاستمرار تصغر ذاته تحت نظر الله تعالى حتى لا يبقى لها بالتدريج أثر من الوجود فيفنى عن وجوده الإمكاني ولا يشاهد فيه ولا في الأشياء كلها إلا وجود الحق سبحانه وقد وصل .



(فصل )

في شروط المراقبة وآدابها التي من داوم عليها يترقى منها إلى مقام المشاهدة فشروطها أن تكون المراقبة بإذن الشيخ وتعليمه وتربيته وتلقينه وأن تكون مع الجذبة القوية وبعد قطع العلائق الحسية والمعنوية وبعد ترك النسب والإضافات وبعد الوقوف عند الواردات وأما آدابها فهي دوام السكوت وملازمة البيوت وكف الحواس عن الإحساس وتعطيل القوى عن الإدراك وترك الاشتغال بالكتابة ومطالعة الكتب والإعراض عن اتباع النفس في طلب العلوم والمعرفة ومخالفة الهوى وترك الآمال والأطماع والخروج عن كل داعية تدعو إلى السوى والسعي في طريق الوصول إلى الله تعالى ودوام التوجه إلى لقائه وترك الطمع عن المقامات والاجتناب عن الكرامات والتأدب مع الله في الظاهر والباطن ومراقبته في جميع المظاهر فمن داوم على المراقبة بهذه الشروط والآداب يتقرب إلى ذلك الجناب ويبلغ مبلغ الرجال ويشاهد الجلال والجمال وتصح له التربية والتلقين والإرشاد إلى رب العالمين .



(فصل )

قالوا المراقبة من أقرب الطرق إلى الله تعالى من حيث التقرب إليه وهذه الأقربية ليست على إطلاقها بالنسبة إلى أهل الجذبة فإنها أقرب الطرق في حقهم وأما بالنسبة إلى السالك فتكون أبعد الطرق لأن السلوك يقتضي الرياضات والمجاهدات في أوائله فلا تنفعه المراقبة ابتداء وهذا موكول إلى فراسة الشيخ البصير العارف فإن رأى في مريده الجذبة الإلهية غالبة عليه شغله بمراقبة اسم الذات وإن رآه عاريا عنها أمره بالنفي والإثبات وملازمة الرياضات حتى يتمكن الذكر من قلبه فينجذب إلى الله تعالى بقلبه فحينئذ يشغله بالمراقبة وذلك على الترتيب والتدريج وقد قالوا إن اسم الذات ذكر المجردين عن قيد السوى والنفي والإثبات ذكر المقيدين بقيد السوى لأن مقام صاحب اسم الذات فرق مجرد كما أشار إليه قوله تعالى قل الله ثم ذرهم إلخ . ومقام صاحب النفي والإثبات فرق مقيد كما أشار إليه الحديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فلكون اسم الذات من الأسماء الجبروتية والنفي والإثبات من الأسماء الملكية كان الوصول بذكر اسم الذات إلى عالم الجبروت لأهل الجذبة أقرب من الوصول إليه بذكر النفي والإثبات وحيث قد فرغنا من ذكر المراقبة ومتعلقاتها فلنعد إلى شرح كلام المصنف قال رحمه الله تعالى .




الخدمات العلمية