الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعن ابن عمر أنه لما دخل أبو بكر البيت وصلى وأثنى عج أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلى كلما ذكر شيئا ازدادوا فما سكن عجيجهم إلا تسليم رجل على الباب صيت جلد قال : السلام عليكم يا أهل البيت ، كل نفس ذائقة الموت الآية ، إن في الله خلفا من كل أحد ، ودركا لكل رغبة ونجاة ، من كل مخافة ، فالله تعالى فارجوا ، وبه فثقوا .

فاستمعوا له وأنكروه ، وقطعوا البكاء فلما انقطع البكاء فقد صوته ، فاطلع أحدهم فلم ير أحدا ، ثم عادوا فبكوا فناداهم مناد آخر لا يعرفون صوته : يا أهل البيت اذكروا الله تعالى واحمدوه على كل حال تكونوا من المخلصين ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وعوضا من كل رغيبة ، فالله فأطيعوا وبأمره فاعملوا .

فقال أبو بكر هذا الخضر واليسع عليهما السلام حضرا النبي صلى الله عليه وسلم واستوفى القعقاع بن عمرو حكاية خطبة أبي بكر ، رضي الله عنه فقال : قام أبو بكر في الناس .

خطيبا حيث قضى الناس عبراتهم ، بخطبة جلها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه على كل حال ، وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلله الحمد وحده ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه ، وأشهد أن الكتاب كما شرع ، وأن الدين كما شرع ، وأن الحديث كما حدث ، وأن القول كما قال ، وأن الله هو الحق المبين ، اللهم فصل على محمد عبدك ورسولك ونبيك وحبيبك وأمينك وخيرتك وصفوتك بأفضل ما صليت به على أحد من خلقك ، اللهم واجعل صلواتك ومعافاتك ورحمتك على سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين محمد قائد الخير وإمام الخير ورسول الرحمة ، اللهم قرب زلفته وعظم برهانه وكرم مقامه وابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون ، وانفعنا بمقامه المحمود يوم القيامة ، واخلفه فينا في الدنيا والآخرة ، وبلغه الدرجة والوسيلة في الجنة ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم إنك حميد مجيد . أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات . ومن كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت ، وإن الله قد قدم إليكم في أمره فلا تدعوه جزعا ، فإن الله عز وجل قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده على ما عندكم ، وقبضه إلى ثوابه وخلف فيكم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فمن أخذ بهما عرف ، ومن فرق بينهما أنكر ، يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ، ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم ، ولا يفتننكم عن دينكم ، وعالجوا الشيطان بالخير تعجزوه ، ولا تستنظروه فيلحق بكم ويفتنكم .

وقال ابن عباس لما فرغ أبو بكر من خطبته قال : يا عمر ، أنت الذي بلغني أنك تقول : ما مات نبي الله صلى الله عليه وسلم ! أما ترى أن نبي الله صلى الله عليه وسلم : قال يوم كذا كذا وكذا ويوم كذا كذا وكذا ، وقال تعالى في كتابه : إنك ميت وإنهم ميتون فقال والله لكأني لم أسمع بها في كتاب الله قبل الآن ; لما نزل بنا أشهد أن الكتاب كما أنزل ، وأن الحديث كما حدث ، وأن الله حي لا يموت ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، وصلوات الله على رسوله ، وعند الله نحتسب رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس إلى أبي بكر .

وقالت عائشة رضي الله عنها : لما اجتمعوا لغسله قالوا والله ما ندري كيف نغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أنجرده عن ثيابه كما نصنع بموتانا أو نغسله في ثيابه ؟ قالت : فأرسل الله عليهم النوم حتى ما بقي منهم رجل إلا واضع لحيته على صدره نائما ، ثم قال قائل لا يدرى من هو : غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابه ، فانتبهوا ففعلوا ذلك فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه حتى إذا فرغوا من غسله كفن .

وقال علي كرم الله وجهه أردنا خلع قميصه فنودينا لا تخلعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيابه .

فأقررناه فغسلناه في قميصه كما نغسل موتانا مستلقيا ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه إلا قلب لنا حتى نفرغ منه ، وإن معنا لحفيفا في البيت كالريح الرخاء ويصوت بنا : ارفقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكم ستكفون
فهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترك سبدا ولا لبدا إلا دفن معه .

قال أبو جعفر : فرش لحده بمفرشه وقطيفته ، وفرشت ثيابه عليها ، التي كان يلبس يقظان ، على القطيفة والمفرش ، ثم وضع عليها في أكفانه .

التالي السابق


(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أنه لما دخل أبو بكر-رضي الله عنه- البيت) أي: حجرة عائشة (وصلى وأثنى عج أهل البيت عجيجا) أي: رفعوا صوتا (أسمعوا أهل المصلى) وهم خارج المدينة (كلما ذكر شيئا ازدادوا فما سكن عجيجهم إلا تسليم رجل على الباب صيت) أي: جهير الصوت (جلد) أي: قوي (قال: السلام عليكم يا أهل البيت، كل نفس ذائقة الموت الآية، إن في الله خلفا من كل أحد، ودركا لكل رغبة، ونجدة من كل مخافة، فالله فارجوا، وبه فثقوا، فاستمعوا له وأنكروه، وقطعوا البكاء فلما انقطع البكاء فقد صوته، فاطلع أحدهم فلم ير أحدا، ثم عادوا فبكوا فناداهم مناد آخر لا يعرفون صوته: يا أهل البيت اذكروا الله واحمدوه على كل حال مخلصين، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل رغيبة، فالله فأطيعوا وبأمره فاعملوا، فقال أبو بكر -رضي الله عنه- هذا الخضر واليسع) عليهما السلام (قد حضرا) وفاة (النبي -صلى الله عليه وسلم-) .

وقال العراقي: لم أجد فيه ذكر اليسع . انتهى. قلت: هكذا أخرجه سيف بن عمر التميمي في كتاب الردة له، عن سعيد بن عبد الله، عن ابن عمر قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء أبو بكر حتى دخل عليه فلما رآه مسجى قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم صلى عليه، فرفع أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلى، فلما سكن ما بهم سمعوا تسليم رجل على الباب صيت جليد يقول، فساقه، وفيه بعد قوله: فثقوا فإن المصاب من حرم الثواب، وفيه: وعوضا من كل هلكة، فبالله فثقوا وإياه فأطيعوا، فإن المصاب من حرم الثواب. فقال أبو بكر: هذا الخضر وإلياس قد حضرا وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

قال الحافظ ابن حجر في الإصابة بعد أن أورده: سيف فيه مقال، وشيخه لا يعرف، قلت: هو سعيد بن عبد الله بن ضرار بن الأزور، وروى عن أبيه وعن غيره، وفيه وفي أبيه مقال، وقد تقدم قريبا .

قال العراقي: وأما ذكر الخضر في التعزية فأنكر النووي وجوده في كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب، قلت: بل قد رواه الحاكم في المستدرك من حديث أنس، ولم يصححه، ولا يصح، قلت: وجدت بخط الشمس الداودي ما نصه: قول الشيخ إن الحاكم لم يصححه صحيح، لكنه مشعر بكونه لم يضعفه، وليس كذلك فإنه ساقه من راويه عباد بن عبد الصمد، ثم قال: وعباد ليس من شرط هذا الكتاب. اهـ .

ثم قال العراقي: ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب القراء من حديث أنس أيضا: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمع أصحابه حوله يبكون، فدخل عليهم رجل طويل، أشعر المنكبين، في إزار ورداء يتخطى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أخذ بعضادتي باب البيت، فبكى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أقبل على أصحابه فقال: إن في الله العزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل فائت، وخلفا من هالك، فإلى الله فأنيبوا، ونظره إليكم في البلاء فانظروا، فإن المصاب من لم يحز الثواب، ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر: علي الرجل، فنظروا يمينا وشمالا فلم يروا أحدا، فقال أبو بكر: لعل هذا الخضر أخو نبينا -صلى الله عليه وسلم- جاء يعزينا عليه، ورواه الطبراني في الأوسط وإسناده ضعيف جدا .

قلت: قال ابن أبي الدنيا في الكتاب المذكور: حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا عباد بن عبد الصمد، عن أنس بن مالك، قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ومن هذا الوجه أخرجهما الحاكم في المستدرك وهو الذي أشار إليه العراقي، بقوله: ولم يصححه ولا يصح، أي: لأجل عباد فإنه ضعفه البخاري والعقيلي، وقال أبو حاتم: ضعيف جدا، وقد أخرجه الطبراني في الأوسط [ ص: 301 ] عن موسى بن هارون عن كامل، وقال: تفرد به عباد عن أنس، ثم قال العراقي: ورواه ابن أبي الدنيا أيضا من حديث علي بن أبي طالب: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء آت يسمع حسه ولا يرى شخصه، قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إن في الله عوضا من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المحروم من حرم الثواب، والسلام عليكم، فقال علي: تدرون من هذا؟ هذا الخضر -عليه السلام- وفيه محمد بن جعفر الصادق، تكلم فيه، وفيه انقطاع بين علي بن الحسين وبين جده علي، والمعروف عن علي بن الحسين مرسلا من غير ذكر علي كما رواه الشافعي في الأم، وليس فيه ذكر للخضر. اهـ .

قلت: روي هذا الحديث من طرق، منها قال: ابن أبي حاتم في التفسير: حدثنا أبي، أنبأنا عبد العزيز الأوسي، حدثنا علي بن أبي علي الهاشمي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه أن علي بن أبي طالب، قال: لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وجاءت التعزية فجاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، إن في الله عزاء من كل مصيبة. فساقه، وفيه: فإن المصاب من حرم الثواب، ولم يقل: السلام عليكم، ثم قال جعفر: أخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال: تدرون من هذا؟ هذا الخضر، ورواه محمد بن منصور الحوار، عن محمد بن جعفر بن محمد، وعبد الله بن ميمون القداح جميعا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، سمعت أبي يقول: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءت التعزية، يسمعون حسه ولا يرون شخصه، السلام عليكم ورحمة الله أهل البيت، إن في الله عزاء من كل مصيبة. فساقه سياق ابن أبي الدنيا.

قال ابن الجوزي: تابعه محمد بن صالح، عن محمد بن جعفر، ومحمد بن صالح ضعيف، قال: ورواه الواقدي، وهو كذاب، ورواه محمد بن أبي عمر عن محمد بن جعفر، وابن أبي عمر مجهول. قال الحافظ في الإصابة; وهذا الإطلاق ضعيف، فإن ابن أبي عمر أشهر من أن يقال فيه، هذا شيخ مسلم وغيره من الأئمة، وهو ثقة حافظ، صاحب مسند مشهور مروي، وهذا الحديث فيه أخبرني به شيخنا حافظ العصر أبو الفضل بن الحسين -رحمه الله تعالى- قال: أخبرني أبو محمد ابن القيم، أنبأنا أبو الحسن بن البخاري، عن محمد بن عمر، أنبأنا سعيد بن أبي رجاء، أنبأنا أحمد بن محمد بن النعمان، أنبأنا أبو بكر بن المقري، أنبأنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، حدثنا محمد بن جعفر، قال: كان أبي، هو جعفر محمد الصادق، يذكر عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أنه دخل عليه نفر من قريش، فقال: ألا أحدثكم عن أبي القاسم؟ قالوا: بلى، فذكر الحديث بطوله في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي آخره: فقال جبريل: يا أحمد، عليك السلام، هذا آخر وطئي الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا، فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاءت التعزية جاء آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، في الله عزاء من كل مصيبة، وخلف من كل هالك، ودرك من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المحروم من حرم الثواب، وإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم، فقال علي: هل تدرون من هذا؟ هذا الخضر . انتهى .

ومحمد بن جعفر هذا هو أخو موسى الكاظم، حدث عن أبيه وغيره روى عنه إبراهيم بن المنذر وغيره، وكان قد دعا لنفسه بالمدينة ومكة، وحج بالناس سنة مائتين، وبايعوه بالخلافة فحج المعتصم فظفر به فحمله إلى أخيه المأمون بخراسان، فمات بجرجان سنة ثلاث ومائتين، وعاش سبعين سنة، قال البخاري: أخوه إسحاق أوثق منه . انتهى .

ومنها ما أخرجه البيهقي في الدلائل قال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو جعفر البغدادي، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الصغاني، حدثنا أبو الوليد المخزومي، حدثنا أنس بن عياض، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء في كل مصيبة، وخلفا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المحروم من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قلت: هكذا أخرجه الحاكم، وزعم أن أبا الوليد المخزومي هو هشام بن إسماعيل الصغاني، ثقة مأمون، كذا قال، وقال الداودي، كما وجد بخطه: والذي أظن أنه خالد بن إسماعيل، وهو كذاب، قلت: أنس بن عياض مدني ثقة، روى له الجماعة مات سنة مائتين عن ست [ ص: 302 ] وتسعين، والراوي عنه أبو الوليد، إن كان كما زعم الحاكم فهو دمشقي يكنى أبا عبد الملك، ووفاته سنة ست عشرة، فقد أدرك من عمره نحو اثنتي عشرة سنة، وكون راويه عبد الله بن عبد الرحمن صغانيا يقوي أنه هو، وإن كان هو خالد بن إسماعيل فهو مدني .

قال ابن عدي: كان يضع الحديث، ولهم رجل آخر مسمى بهذا الاسم، ويروى عن عوف وهو مجهول، قال الذهبي: ولعله المخزومي، وقال البيهقي أيضا: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن عمرو الأحمسي، حدثنا الحسين بن حميد بن الربيع اللخمي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا شيبان بن حاتم، حدثنا عبد الواحد بن سليمان الحارثي، حدثنا الحسين بن علي، عن محمد بن علي هو ابن الحسين بن علي، قال: لما كان قبل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هبط إليه جبريل، فذكر قصة الوفاة بطوله، وفيه: أتاهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه، فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فذكر مثله في التعزية .

(واستوفى القعقاع بن عمرو) التميمي أخو عاصم (حكاية خطبة أبي بكر، رضي الله عنه) وكان القعقاع من الشجعان الفرسان قيل: إن أبا بكر كان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل، وله في قتال الفرس بالقادسية وغيرها بلاء عظيم، وهو الذي غنم في فتح المدائن أدراع كسرى، وكان فيها درع لهرقل، ودرع لخاقان، ودرع للنعمان وسيفه، وسيف كسرى، فأرسلها سعد إلى عمر، قال ابن عساكر: يقال: إن له صحبة، كان أحد فرسان العرب وشعراءهم. شهد فتح دمشق. وأكثر فتوح العراق. وله في ذلك أشعار مشهورة. وقال ابن السكن: ويقال: هو القعقاع بن عمرو بن معبد التميمي.

(فقال: قام أبو بكر في الناس خطيبا حيث قضى الناس عبراتهم، بخطبة جلها الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه على كل حال، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلله الحمد وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، وأشهد أن الكتاب كما نزل، وأن الدين كما شرع، وأن الحديث كما حدث، وأن القول كما قال، وأن الله هو الحق المبين، اللهم فصل على محمد عبدك ورسولك ونبيك وحبيبك وأمينك وخيرتك وصفوتك بأفضل ما صليت به على أحد من خلقك، اللهم واجعل صلواتك ومعافاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين محمد قائد الخير وإمام الخير ورسول الرحمة، اللهم قرب زلفته وعظم برهانه وكرم مقامه وابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون، وانفعنا بمقامه المحمود يوم القيامة، واخلفه فينا في الدنيا والآخرة، وبلغه الدرجة والوسيلة من الجنة، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وآل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم إنك حميد مجيد .

يا أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، وإن الله قد تقدم إليكم في أمره فلا تدعوه جزعا، فإن الله -عز وجل- قد اختار لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه وخلف فيكم كتابه وسنته وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فمن أخذ بهما عرف، ومن فرق بينهما أنكر، يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط، ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم، ولا يفتننكم عن دينكم، وعالجوا الشيطان بالخير تعجزوه، ولا تستنظروه فيلحق بكم ويفتنكم) .

رواه بطوله سيف بن عمر التميمي في كتاب الفتوح له، عن عمرو بن تمام، عن أبيه، عن القعقاع، قال ابن أبي حاتم: سيف متروك، وأخرجه ابن السكن من طريق إبراهيم بن سعد، عن سيف بن عمر عن عمرو عن أبيه، وقال سيف بن عمر ضعيف، قلت: هو من رجال الترمذي، وهو وإن كان ضعيفا في الحديث فهو عمدة في التاريخ مقبول النقل .

(وقال ابن عباس) -رضي الله عنه- (لما فرغ أبو بكر من خطبته قال: يا عمر، أنت [ ص: 303 ] الذي بلغني أنك تقول: ما مات نبي الله -صلى الله عليه وسلم! أما ترى أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم كذا كذا وكذا ويوم كذا كذا وكذا، وقال الله تعالى في كتابه: إنك ميت وإنهم ميتون فقال) عمر -رضي الله عنه- (والله لكأني لم أسمع بها في كتاب قبل الآن; لما نزل بنا) أي: من الدهشة والحيرة بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أشهد أن الكتاب كما نزل، وأن الحديث كما حدث، وأن الله حي لا يموت، إنا لله وإنا إليه راجعون، وصلوات الله على رسوله، وعند الله نحتسب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم جلس إلى أبي بكر) .

رواه البخاري من حديث ابن عباس بلفظ: إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله -عز وجل-: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية، قال: والله، لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع أحدا من الناس إلا يتلوها.

وروى أبو نصر الوائلي في كتاب الإبانة عن أنس بن مالك: أنه سمع عمر بن الخطاب يقول حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستوى على منبره -عليه السلام- تشهد، ثم قال: أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب الله ولا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يدبرنا، أي: يكون آخرنا موتا فاختار الله -عز وجل- لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اهـ .

وقال صاحب المواهب: ولما تحقق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- موته -صلى الله عليه وسلم- بقول أبي بكر -رضي الله عنه- ورجع إلى قوله قال وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلما كثروا اتخذت منبرا تسمعهم فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال: من يطع الرسول فقد أطاع الله بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم فقال الله تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذبون، يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا إلى آخره. وهو طويل، ذكره أبو العباس العقاد في شرحه لبردة البوصيري، ونقله الرشاطي في اقتباس الأنوار، وذكره ابن الحاج في المدخل وساقه بتمامه، والقاضي عياض في الشعب، لكنه ذكر بعضه .

(وقالت عائشة -رضي الله عنها-: لما اجتمعوا لغسله قالوا والله ما ندري كيف نغسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أنجرده عن ثيابه كما نصنع بموتانا أو نغسله في ثيابه؟ قالت: فأرسل الله عليهم النوم حتى ما بقي منهم رجل إلا واضع لحيته في صدره نائما، ثم قال قائل لا يدرى من هو: غسلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه، فانتبهوا ففعلوا ذلك فغسل -صلى الله عليه وسلم- في قميصه حتى إذا فرغ من غسله كفن) رواه البيهقي في الدلائل وفيه، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: غسلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثيابه، فقاموا فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص.

(وقال علي -كرم الله وجهه- أردنا خلع قميصه فنودينا لا تخلعوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثيابه، فأقررناه فغسلناه في قميصه كما يغسل موتانا مستلقيا ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه إلا قلب لنا حتى نفرغ منه، وإن معنا لحفيفا في البيت كالريح الرخاء ويصوت بنا: ارفقوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنكم ستكفون) .

وقد صح أنه غسل -صلى الله عليه وسلم- ثلاث غسلات: الأولى بماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، وغسله علي والعباس وابنه الفضل يعنيانه وقثم وأسامة وشقران مولاه -صلى الله عليه وسلم- يصبون الماء وأعينهم معصوبة من وراء الستر; لحديث علي: لا يغسلني إلا أنت، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه [ ص: 304 ] رواه البزار والبيهقي، وروى البيهقي عن الشعبي قال: غسل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان يقول وهو يغسله: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا.

وروى أبو داود والحاكم وصححه، عن علي قال: غسلته -صلى الله عليه وسلم- فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئا كان طيبا حيا وميتا، وفي رواية لابن سعد وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط وفتل على يده خرقة وأدخلها تحت القميص، ثم اعتصر قميصه، وحنطوا مساجده ومفاصله، ووضوا منه ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه، وجمروه عودا وندا.

وذكر ابن الجوزي أنه روي عن جعفر بن محمد، قال: كان الماء ينتقع في جفون النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان علي يحسوه، وأما ما روي أن عليا لما غسله امتص ماء محجر عينه فشربه، وأنه ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووي ليس بصحيح، وفي حديث عروة عن عائشة قالت: كفن -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب سحولية بيض، أخرجه النسائي من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، واتفق عليه الأئمة الستة من طريق هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة بزيادة: من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة، وليس قوله: من كرسف عند الترمذي ولا ابن ماجه، زاد مسلم: أما الحلة فإنما تشبه على الناس أنها اشتريت له ليكفن فيها، فتركت الحلة وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله لنبيه لكفنه فيها فباعها فتصدق بثمنها، وفي رواية له: أدرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حلة يمنية في ثوبين وبردة حبرة، فقالت: قد أتي بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه، وقال الترمذي حسن صحيح، وفي رواية البيهقي: في ثلاثة أثواب سحولية جدد، وقال الترمذي: روي في كفن النبي -صلى الله عليه وسلم- روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم .

وقال البيهقي في الخلافيات: قال أبو عبد الله، يعني الحاكم: تواترت الأخبار عن علي وابن عباس وعائشة وابن عمر وجابر وعبد الله بن مغفل في تكفين النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وروى أحمد من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية، عن علي، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفن في سبعة أثواب فقال ابن حزم: إن الوهم فيه من ابن عقيل أو ممن بعده .

(فهكذا كانت وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يترك سبدا ولا لبدا إلا دفن معه، قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: فرش لحده بمفرشة وقطيفة، وفرشت ثيابه عليها، التي كان يلبس يقظانا، على القطيفة والمفرش، ثم وضع عليها في أكفانه) قال العراقي: الذي وضع المفرشة شقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس ذكر ذلك من شرط كتابنا، ولمسلم والترمذي وحسنه، والنسائي من حديث ابن عباس، قال: جعل في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم- قطيفة حمراء. اهـ .

قلت: في حديث عائشة المتقدم في التكفين دلالة ظاهرة على أن القميص الذي غسل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نزع عنه عند تكفينه، قال النووي في شرح مسلم وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره; لأنه لو أبقي مع رطوبته لأفسد الأكفان، قال: وأما الحديث الذي في سنن أبي داود عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كفن في ثلاثة أثواب، وقميصه الذي توفي فيه فضعيف لا يصح الاحتجاج به; لأن يزيد بن زياد أحد رواته مجمع على ضعفه، لاسيما وقد خالف بروايته الثقات. اهـ .

والقطيفة التي فرشها شقران هي النجرانية التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتغطى بها، وروي أنه قال: والله لا يلبسها أحد بعدك، قال النووي: وقد نص الشافعي وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة أو نحو ذلك تحت الميت في القبر، وشد البغوي من أصحابنا فقال في كتابه "التهذيب": لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهة ذلك كما قاله الجمهور وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- .

ونقل الزين المراغي في تحقيق النصرة عن ابن عبد البر أنه قال: أخرجت، يعني القطيفة، من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع، حكاه ابن زبالة.



* (فصل) *

روى ابن ماجه من حديث ابن عباس قال لما فرغوا من جهازه -صلى الله عليه وسلم- يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس عليه أرسالا يصلون عليه حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغوا دخل [ ص: 305 ] الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد، وفي رواية أن أول من صلى عليه الملائكة أفواجا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجا فوجا، ثم نساؤه آخرا.

وروي أنه لما صلى أهل البيت لم يدر الناس ما يقولون، فسألوا ابن عباس، فأمرهم أن يسألوا عليا، فقال لهم: قولوا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما لبيك اللهم ربنا وسعديك صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شيء يا رب العالمين، على محمد بن عبد الله خاتم النبيين وسيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الشاهد البشير، الداعي إليك بإذنك، السراج المنير وعليه السلام. ذكره الزين المراغي في تحقيق النصرة .




الخدمات العلمية