الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالأنس يحصل بدوام الذكر ، والمعرفة تحصل بدوام الفكر والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة ولن يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا ، ولن يتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنه شهواتها حتى يصير مائلا إلى الخير ، مريدا له ، نافرا عن الشر ، مبغضا له ، وإنما يميل إلى الخيرات والطاعات إذا علم أن سعادته في الآخرة منوطة بها كما يميل العاقل إلى القصد والحجامة لعلمه بأن سلامته فيهما .

، وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة عليه ، فإن المواظبة على مقتضى صفات القلب وإرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة حتى تترشح الصفة وتقوى بسببها .

فالمائل إلى طلب العلم او طلب الرياسة لا يكون ميله في الابتداء إلا ضعيفا ، فإن اتبع بمقتضى الميل ، واشتغل بالعلم وتربية الرياسة والأعمال المطلوبة لذلك تأكد ميله ورسخ وعسر عليه النزوع وإن خالف مقتضى ميله ضعف ميله وانكسر ، وربما زال وانمحق .

، بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلا فيميل إليه طبعا لا ضعفا لو تبعه وعمل بمقتضاه فداوم على النظر والمجالسة والمخالطة والمحاورة تأكد ميله حتى يخرج أمره عن اختياره فلا يقدر على النزوع عنه ، ولو فطم نفسه ابتداء وخالف مقتضى ميله لكان ذلك كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل ، ويكون ذلك زبرا ودفعا في وجهه ؛ حتى يضعف وينكسر بسببه وينقمع وينمحي .

وهكذا جميع الصفات والخيرات والطاعات كلها هي التي تراد بها الآخرة ، والشرور كلها هي التي تراد بها الدنيا لا الآخرة .

، وميل النفس إلى الخيرات الأخروية وانصرافها عن الدنيوية هو الذي يفرغها للذكر والفكر ، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة وترك المعاصي بالجوارح ؛ لأن بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى إنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر ، فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب ، وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز من أعزته أو بهجوم أمر مخوف تأثرت به الأعضاء ، وارتعدت الفرائص ، وتغير اللون ، إلا أن القلب هو الأصل المتبوع فكأنه الأمير والراعي والجوارح كالخدم والرعايا والأتباع .

فالجوارح خادمة للقلب بتأكيد صفاتها فيه ، فالقلب هو المقصود والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد " وقال عليه الصلاة والسلام : " اللهم أصلح الراعي والرعية " وأراد بالراعي القلب وقال الله تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وهي صفة القلب .

فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح .

ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل ؛ لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له .

وغرضنا ، من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ، ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر ، فبالضرورة يكون خيرا بالإضافة إلى الغرض ؛ لأنه متمكن من نفس المقصود ، وهذا كما أن المعدة إذا تألمت فقد تداوى بأن يوضع الطلاء على الصدر وتداوى بالشرب والدواء الواصل إلى المعدة ، فالشرب خير من طلاء الصدر ؛ لأن طلاء الصدر أيضا إنما أريد به أن يسري منه الأثر إلى المعدة فما يلاقي عين المعدة فهو خير وأنفع .

فهكذا ينبغي أن تفهم تأثير الطاعات كلها ؛ إذ المطلوب منها تغيير القلوب وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح ، فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض ، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب فإن من يجد في نفسه تواضعا فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكد تواضعه ، ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكدت الرقة في قلبه ولهذا لم يكن العمل بغير نية مفيدا أصلا ؛ لأن من يمسح رأس يتيم وهو غافل بقلبه أو ظان أنه يمسح ثوبا لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة ، وكذلك من يسجد غافلا وهو مشغول الهم بأعراض الدنيا لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتأكد به التواضع ، فكان وجود ذلك كعدمه ، وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يسمى باطلا ، فيقال : العبادة بغير نية باطلة ، وهذا معناه إذا فعل عن غفلة فإذا قصد به رياء أو تعظيم شخص آخر لم يكن وجوده كعدمه بل زاده شرا ، فإنه لم يؤكد الصفة المطلوبة تأكيدها حتى أكد الصفة المطلوب قمعها وهي صفة الرياء التي هي من الميل إلى الدنيا . فهذا وجه كون النية خيرا من العمل .

وبهذا أيضا يعرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة " لأن هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى وحب ، الدنيا وهي غاية الحسنات ، وإنما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيدا ، فليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم ، بل ميل القلب عن حب الدنيا وبذلها إيثارا لوجه الله تعالى ، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة ، وإن عاق عن العمل عائق فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم والتقوى ههنا صفة القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إن قوما بالمدينة قد شركونا في جهادنا " كما تقدم ذكره لأن قلوبهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى كقلوب الخارجين في الجهاد ، وإنما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب ، وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات .

وبهذه المعاني تفهم جميع الأحاديث التي أوردناها في فضيلة النية فاعرضها عليها لينكشف لك أسرارها فلا نطول بالإعادة .

بيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنية .

التالي السابق


(فالأنس يحصل بدوام الذكر، والمعرفة) تحصل (بدوام الفكر) بمراقبة القلب (والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة) لأنها ثمرتها، (ولن يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا، ولن يتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنه شهواتها حتى يصير مائلا إلى الخير، مريدا له، نافرا عن الشر، مبغضا له، وإنما يميل إلى الخيرات والطاعات إذا علم أن سعادته في الآخرة منوطة بها كما يميل العاقل إلى الفصد والحجامة لعمله بأن سلامته فيها، وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة عليه، فإن المواظبة على مقتضى صفات القلب وإرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة حتى تترشح الصفة ويقوى بسببها .

فالمائل إلى طلب العلم أو طلب الرياسة لا يكون ميله في الابتداء إلا ضعيفا، فإن اتبع مقتضى الميل، واشتغل بالميل وتربية الرياسة والأعمال المطلوبة بذلك تأكد ورسخ) أي: ثبت (وتعسر عليه النزوع) عنه، (وإن خالف مقتضى ميله ضعف ميله وانكسر، وربما زال وانمحق، بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلا فيميل إليه طبعه ميلا ضعيفا ولو تبعه وعمل بمقتضاه فداوم على النظر والمجالسة والمخالطة والمجاورة حتى يخرج أمره عن اختياره فلا يقدر على النزوع عنه، ولو فطم نفسه ابتداء وخالف مقتضى ميله لكان ذلك كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل، ويكون) ذلك (زبرا) أي: منعا بشدة (ودفعا في وجهه؛ حتى يضعف وينكسر بسببه وينقمع وينمحي، وهكذا جميع الصفات والخيرات والطاعات كلها هي التي تراد بها الآخرة، والشرور كلها هي التي تراد بها الدنيا للدنيا لا للآخرة، وميل النفس إلى الخيرات الأخروية وانصرافها عن الدنيوية هو الذي يفرغها للذكر والفكر، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعات وترك المعاصي بالجوارح؛ لأن بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى أنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر، فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب، وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز من أعزته أو بهجوم أمر مخوف تأثرت به الأعضاء، وارتعدت الفرائص، وتغير اللون، إلا أن القلب هو الأصل المتبوع وكأنه الأمير والراعي) أي بمنزلتهما (والجوارح) كلها (كالخدم والرعايا والأتباع) أي بمنزلتها .

(فالجوارح خادمة للقلب بتأكيد صفاتها فيه، فالقلب هو المقصود) الأعظم (والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد") متفق عليه من حديث النعمان بن بشير، وقد تقدم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أصلح الراعي والرعية") قال العراقي : لم أجده، وقد تقدم (وأراد بالراعي القلب) وبالرعية الجوارح، وكأنه قال: اللهم أصلح الظاهر والباطن .

وقال صاحب القوت: وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل القلب بالملك والجوارح جنوده، قال: "وإذا صلح القلب صلح الجسد، وإذا فسد فسد الجسد" معناه: فإذا صلحت للعبد نيته دامت للعبد استقامته، وإذا خلص وصفا من شوب الكدر [ ص: 18 ] والهوى خلصت الأعمال من الرياء وصفت من الشهوات والأهواء، وإذا فسدت نيته بحب الدنيا فسدت أعمال الجوارح بحب المدح والرياء .

وقال أيضا: أول سلطان العدو على القلب عند فساد النية، فإذا تغيرت من العبد طمع فيه، فيتسلط عليه، وأول ارتداد العبد عن الاستقامة ضعف النية، فإذا ضعفت النية قويت النفس فتمكن الهوى، وإذا قويت النية صح العزم وضعفت صفات النفس؛ ولأن ينتقل العبد من معصية إلى معصية فيكون تاركا للأولى بنية الترك لأجل الله تعالى كان أنفع له، وأحمد عاقبة، وأصلح لقلبه، وأقرب إلى توبته من افتعال الطاعات مشوبة بالهوى وفساد النيات؛ لأنه حينئذ يكون متقلبا في المعاصي بفساد نيته، وخالطا عملا سيئا بسيئ مثله، ودرأ بالسيئ السيئة قبلها، وهذا بخلاف وصف الله تعالى من قوله خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وقوله: ويدرءون بالحسنة السيئة ومخالف لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " اهـ .

(وقال الله تعالى: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وهو صفة القلب، فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح، ثم يجب أن تكون النية من جملتها) أي: أعمال القلب (أفضل؛ لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له، وغرضها من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير، ويؤكد فيه الميل ليفرغ من شهوات الدنيا) ووساوس النفس، (ويكب على الذكر والفكر، فبالضرورة يكون خيرا بالإضافة إلى الغرض؛ لأنه متمكن من نفس المقصود، وهذا كما أن المعدة) التي هي حوض البدن (إذا تألمت فقد تداوى بأن يوضع الطلاء على الصدر ويداوى بالشرب والدواء الواصل إلى المعدة، فالشرب خير من طلاء الصدر؛ لأن طلاء الصدر أيضا إنما أريد به أن يسري منه الأثر إلى المعدة فما يلاقي عين المعدة فهو خير وأنفع) لقرب التأثير .

(فهكذا ينبغي أن تفهم تأثير الطاعات كلها؛ إذ المطلوب منها تغيير القلوب وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح، فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب فإن من يجد في نفسه تواضعا فإذا استعان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكد تواضعه، ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكدت الرقة في قلبه) .

وقد ورد في مسح رأس اليتيم عدة أخبار، منها: عن أبي أمامة رفعه: " من مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله فإن له بكل شعرة مرت على يده حسنة " الحديث. رواه ابن المبارك وأحمد والطبراني والحاكم وصاحب الحلية .

(ولهذا لم يكن العمل بغير نية مفيدا أصلا؛ لأن من يمسح رأس يتيم وهو غافل بقلبه أو ظان أنه يمسح ثوبا لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة، وكذلك من يسجد غافلا وهو مشغول الهم بأعراض الدنيا لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتأكد به التواضع، فكان وجود ذلك كعدمه، وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يسمى باطلا، فيقال: العبادة بغير نية باطلة، وهذا معناه) .

ومفهوم هذا تقدير صحة الأعمال بالنيات في حديث: " إنما الأعمال بالنيات " وقد تقدم الكلام عليه قريبا، وفيه اشتراط النية لصحة العبادة .

قال العراقي في شرح التقريب: وقد اتفق العلماء على ذلك في العبادة المقصودة لعينها التي ليست وسيلة إلى غيرها، وحكى أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه "بداية المجتهد" اتفاق العلماء على اشتراط النية في العبادات . وحكى الاختلاف في الوضوء لاختلافهم في أنه مقصد أو وسيلة .

وحكى ابن التين أنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية .

(هذا إذا فعل عن غفلة فإن قصد به رياء [ ص: 19 ] أو تعظيم شخص آخر لم يكن وجوده كعدمه بل زاده شرا، فإنه لم يؤكد الصفة المطلوب تأكيدها حتى أكد الصفة المطلوب قمعها وهي صفة الرياء التي هي من الميل إلى الدنيا. فهذا وجه كون النية خيرا من العمل) وقد ذكرت في سبب الترجيح وجوه أخرى غير ما ذكره المصنف .

فمنها: أن الله -عز وجل- يهب النية للعبد خالصة لا يشوبها شيء إذا وهبها، ولا تدخل عليها الآفات، فهذا عطاء مهنأ، وسائر الأعمال مدخولة. نقله صاحب القوت .

ومنها: أن المراد إخلاصه في العمل خير من العمل. نقله صاحب القوت، عن عبد الرحيم بن يحيى الأسود، قال: فالإخلاص بغير عمل خير من عمل غير مخلص، والنية عنده هو نفس الإخلاص، وعند غيره هو الصدق في الحال باستواء السريرة والعلانية، وسيأتي الكلام على الإخلاص والصدق .

ومنها: أن النية فعل القلب وفعل الأشرف مشرف .

ومنها: أن القصد من الطاعة تنوير القلب، وتنويره بها أكثر؛ لأنها صفته .

ومنها: أن النية عبودية القلب والعمل عبودية الجوارح، وعمل القلب أبلغ وأنفع وهو أمير الجوارح، وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة مفهومة من سياق المصنف عند التأمل .

ومنها: ما قاله البيضاوي في تفسير قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء بفضله على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه، ومن أجله تفاوتت الأعمال في مقادير الثواب، فالمعنى أن جنس النية راجح على جنس العمل بدلالة أن كلا من الجنسين إذا انفرد عن الآخر يثاب على الأول دون الثاني، وهذا لا يتمشى في حق الكافر؛ ولذا قال: نية المؤمن خير من عمله. اهـ .

ومنها: أن العمل يدخل تحت الحصر والنية لا؛ إذ المتحقق في إيمانه عقد نيته على أن يطيع الله ما أحياه، ولو أماته ثم أحياه، وثم وثم، وهذا اعتقاد منبرم مستدام، فيترتب له من الجزاء على نيته ما كان يترتب له على عمله .

ومنها: أن المؤمن كلما عمل خيرا نوى أن يعمل ما هو خير منه، فليس لنيته في الخير منتهى، والفاجر كلما عمل شرا نوى أن يعمل ما هو شر منه، فليس لنيته في الشر منتهى .

ومنها: أن المؤمن ينوي أن يصوم النهار ويقوم الليل ويخرج من ماله، فلا تتابعه نفسه على ذلك، فنيته أبلغ من عمله، وهذا نقل عن ثابت البناني أحد رواة هذا الحديث، كما في القوت .

ومنها: أن النية هي التي تقلب العمل الصالح فاسدا والفاسد صالحا، فكانت أبلغ وأنفع، فهذه عشرة أوجه غير التي ذكرها المصنف يكون الجميع خمسة عشر وجها .

(وبهذا أيضا يعرف معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة") تقدم، وتمامه: "فإن عملها كتبت له عشر حسنات" (لأن هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى، و) عن (حب الدنيا وهي غاية الحسنات، وإنما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيدا، فليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم، بل ميل القلب عن حب الدنيا وبذلها إيثارا) لوجه (الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) كما في الكتاب العزيز .

(والتقوى ههنا أعني القلب) وهذا قد رواه أبو يعلى من حديث أبي هريرة بلفظ: "التقوى ههنا" قاله ثلاثا، وأشار إلى القلب .

(ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إن أقواما بالمدينة قد شركونا في جهادنا" كما تقدم ذكره) قريبا (لأن قلوبهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى كقلوب الخارجين في الجهاد، وإنما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب، وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات) وفي هذا السياق رد على من زعم أن حديث: "من هم بحسنة" مضاد لحديث: "نية المؤمن خير من عمله" لدلالته على ترجيح العمل .

(وبهذه المعاني تفهم جميع الأحاديث التي أوردناها في فضيلة النية فاعرضها عليها لتنكشف لك أسرارها فلا نطول بالإعادة) .

قال الكمال محمد بن إسحاق الصوفي في مقاصد المنجيات: سألت الإمام عز الدين بن عبد السلام عن ترجيح النية على العمل، فأجاب: إن الوسيلة ليست أفضل من مقصودها. اهـ .

قال: وهذا بحسب نظر الناظر، فمن نظر إلى أن النية وسيلة محثة على العمل قال: العمل أفضل من النية؛ لأنه مقصودها، كمن نوى أن يتصدق بمال ثم تصدق به كان فضل العمل بقدر ما أدخل من السرور على قلوب الفقراء والصالحين لسد خلتهم، ومن نظر إلى أعمال الجوارح [ ص: 20 ] المنوطة بالنية هي وسائل لتقوية النية قال: النية أفضل؛ إذ الأعمال بهذا الاعتبار وسيلة إلى تقوية النية، وكأنها وسيلة أولا مقصودة آخرا، وهذا معنى ما ذكره الإمام الغزالي، وهو نظر صحيح لمن تأمله. والله أعلم .




الخدمات العلمية