الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويدل على أن الموت ليس عبارة عن انعدام الروح وانعدام إدراكها آيات وأخبار كثيرة أما الآيات فما ورد في الشهداء إذ قال تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين ولما قتل صناديد قريش يوم بدر ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا فلان يا فلان يا فلان قد وجدت ما وعدني ربي حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا فقيل : يا رسول الله أتناديهم وهم أموات فقال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إنهم لأسمع لهذا الكلام منكم إلا أنهم لا يقدرون على الجواب فهذا نص في بقاء روح الشقي وبقاء إدراكها ومعرفتها، والآية نص أرواح في الشهداء ولا يخلو الميت عن سعادة أو شقاوة ، وقال صلى الله عليه وسلم : القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة وهذا نص صريح على أن الموت معناه تغير حال فقط ، وأن ما سيكون من شقاوة الميت وسعادته يتعجل عند الموت من غير تأخر ، وإنما يتأخر بعض أنواع العذاب والثواب دون أصله .

وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الموت القيامة فمن مات فقد قامت قيامته وقال صلى الله عليه وسلم : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده غدوة وعشية إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ويقال هذا مقعدك حتى تبعث إليه يوم القيامة وليس يخفى ما في مشاهدة المقعدين من عذاب ونعيم في الحال وعن أبي قيس قال : كنا مع علقمة في جنازة فقال : أما هذا فقد قامت قيامته .

وقال علي كرم الله وجهه : حرام على نفس أن تخرج من الدنيا حتى تعلم من أهل الجنة هي أم من أهل النار وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مات مريضا ووقي فتانتا القبر وغدي وريح عليه برزقه من الجنة وقال مسروق ما غبطت أحدا ما غبطت مؤمنا في اللحد قد استراح من نصب الدنيا وأمن من عذاب الله وقال يعلى بن الوليد : كنت أمشي يوما مع أبي الدرداء فقلت له : ما تحب لمن تحب ؟ قال : الموت ، قلت : فإن لم يمت ؟ قال : يقل ماله وولده وإنما أحب الموت لأنه لا يحبه إلا المؤمن والموت إطلاق المؤمن من السجن وإنما أحب قلة المال والولد ؛ لأنه فتنة وسبب للأنس بالدنيا والأنس بمن لا بد من فراقه غاية الشقاء ، فكل ما سوى الله وذكره والأنس به فلا بد من فراقه عند الموت لا محالة ولهذا قال عبد الله بن عمرو إنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه أو روحه مثل رجل بات في سجن فأخرج منه فهو يتفسح في الأرض ويتقلب فيها وهذا الذي ذكره حال من تجافى عن الدنيا وتبرم بها ، ولم يكن له أنس إلا بذكر الله تعالى ، وكانت شواغل الدنيا تحبسه عن محبوبه ومقاساة الشهوات تؤذيه فكان في الموت خلاصه من جميع المؤذيات وانفراده بمحبوبه الذي كان به أنسه من غير عائق ولا دافع ، وما أجدر ذلك بأن يكون منتهى النعيم واللذات وأكمل اللذات للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله لأنهم ما أقدموا على القتال إلا قاطعين التفاتهم عن علائق الدنيا مشتاقين إلى لقاء الله راضين بالقتل في طلب مرضاته فإن نظر إلى الدنيا فقد باعها طوعا بالآخرة والبائع لا يلتفت قلبه إلى المبيع وإن نظر إلى الآخرة فقد اشتراها وتشوق إليها فما أعظم فرحه بما اشتراه إذا رآه ، وما أقل التفاته إلى ما باعه إذا فارقه ، وتجرد القلب لحب الله تعالى قد يتفق في بعض الأحوال ولكن لا يدركه الموت عليه فيتغير والقتال سبب للموت فكان سببا لإدراك الموت على مثل هذه الحالة فلهذا عظم النعيم إذ معنى النعيم أن ينال الإنسان ما يريده قال الله تعالى : ولهم ما يشتهون فكان هذا أجمع عبارة لمعاني لذات الجنة ، وأعظم العذاب أن يمنع الإنسان عن مراده كما قال الله تعالى :وحيل بينهم وبين ما يشتهون فكان هذا أجمع عبارة لعقوبات أهل جهنم ، وهذا النعيم يدركه الشهيد كما انقطع نفسه من غير تأخير ، وهذا أمر انكشف لأرباب القلوب بنور اليقين ، وإن أردت عليه شهادة من جهة السمع فجميع أحاديث الشهداء تدل عليه وكل حديث يشتمل على التعبير عن منتهى نعيمهم بعبارة أخرى فقد روي عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر ألا أبشرك يا جابر وكان قد ؟ استشهد أبوه يوم أحد فقال : بلى بشرك الله بالخير فقال : إن الله عز وجل قد أحيا أباك وأقعده بين يديه وقال : تمن علي عبدي ما شئت أعطيكه فقال : يا رب ما عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك فأقتل فيك مرة أخرى ، قال له أنه : قد سبق مني أنك إليها لا ترجع وقال كعب يوجد رجل في الجنة يبكي فيقال له : لم تبكي وأنت في الجنة ؟ قال : أبكي لأني لم أقتل في الله إلا قتلة واحدة فكنت أشتهي أن أرد فأقتل فيه قتلات .

التالي السابق


(ويدل على أن الموت ليس عبارة عن انعدام الروح وانعدام إدراكها آيات وأخبارا أما الآيات فما ورد فيه) حق (الشهداء) وهم المقتولون في المعركة (إذ قال تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون و) أما الأخبار فقد روي أنه (لما قتل صناديد قريش) أي: رؤساؤهم (يوم بدر) في الوقعة الكبرى، وأمر بهم فسحبوا إلى قليب هناك (ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعد أن وقف على شفير القليب (فقال: يا فلان يا فلان يا فلان) وسماهم بأسمائهم (قد وجدت ما وعدني ربي حقا) من النصرة (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) من الخزي والقتل (فقيل: يا رسول الله أتناديهم وهم أموات) القائل لذلك عمر بن الخطاب (فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنهم لأسمع لهذا الكلام منكم ألا إنهم لا يقدرون على الجواب) .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب. انتهى .

قلت: وروى الطبراني من حديث أنس قال: أنشأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدثنا عن أهل بدر يقول: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى، قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأ الحدود التي حدها -صلى الله عليه وسلم- حتى انتهى إليهم، فقال: يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا [ ص: 380 ] وفي رواية: فنادى يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا أمية بن خلف ويا أبا جهل بن هشام وفي بعضه نظر، فقد روى عروة بن الزبير من حديث عائشة قالت: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقتلى أن يطرحوا في القليب فطرحوا فيه لا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة. لكن يجمع بينهم بأنه كان قريبا من القليب فنودي فيمن نودي لكونه كان من جملة رؤسائهم .

وقال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: يا أهل القليب بئس العشيرة كنتم كذبتموني وصدقني الناس، فقال عمر -رضي الله عنه- يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها قال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا، وفي رواية: أتخاطب قوما قد جيفوا .

(فهذا نص في بقاء روح الشقي وبقاء إدراكها ومعرفتها) وقال قتادة: أحياهم الله تعالى توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة، وقد روي عن عائشة- رضي الله عنها أنها قالت إنما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم الحق، ثم قرأت: إنك لا تسمع الموتى الآية، فهذا فيه الإنكار وأجيب بأنه روي أنها رجعت عن ذلك لما روى أحمد من حديثها أنها قالت ما أنتم أسمع لما أقول منهم وهو في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد .

وقال الإسماعيلي: الجمع بينهم ممكن؛ لأن قوله تعالى: إنك لا تسمع الموتى لا ينافي قوله، صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن يسمعون؛ لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين إما بآذان رءوسهم إذا قلنا: إن الروح تعاد إلى الجسد أو إلى بعضه عند المسألة وهو قول أكثر أهل السنة، وإما بأذن القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجيه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد أو إلى بعضه قال: وقد روي عن عائشة أنها احتجت بقوله تعالى: وما أنت بمسمع من في القبور الآية، وهذه الآية كقوله تعالى: أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي أي: إن الله هو الذي يهدي ويوقف ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت فإذا لا تخلو بالآية من وجهين: أحدهما: أنها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان، الثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء ألا هو يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير. انتهى (والآية) المذكورة (نص في) بقاء (أرواح الشهداء) .

قال ابن عباس: نزلت في قتلى أحد استشهد منهم سبعون رجلا أربعة من المهاجرين وسائرهم من الأنصار، رواه الحاكم وصححه: جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش رواه أحمد وأبو داود والبيهقي في الدلائل وابن جرير وابن المنذر (ولا يخلو الميت من سعادة أو شقاوة، وقال صلى الله عليه وسلم: القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة) .

رواه الترمذي والطبراني من حديث أبي سعيد لكن بتقديم الجملة الثانية على الأولى، ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة وسندهما ضعيف، ورواه البيهقي في كتاب عذاب القبر من حديث ابن عمر بلفظ القبر: حفرة من حفر جهنم والباقي سواء، وقد تقدم في كتاب الرجاء والخوف (وهذا نص صريح في أن الموت معناه تغير حال فقط، وأن ما سيكون من شقاوة الميت وسعادته يتعجل عند الموت من غير تأخر، وإنما يتأخر بعض أنواع العذاب والثواب دون أصله وروى أنس) -رضي الله عنه- (عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: الموت القيامة من مات فقد قامت قيامته) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت بإسناد ضعيف، وقد تقدم ورواه الديلمي وابن لال في مكارم الأخلاق بلفظ: إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته، وقد تقدم في: أكثروا ذكر هادم اللذات، وروى الطبراني من طريق زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال: يقولون القيامة وإنما قيامة الرجل موته (وقال صلى الله عليه وسلم: إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده غدوة وعشية إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) فقال العراقي: متفق عليه من حديث ابن عمر.

قلت: وكذلك رواه الترمذي وابن ماجه وتمامه عندهم يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة وفي لفظ لهم: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة [ ص: 381 ] فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة، ورواه كذلك أيضا الطيالسي، وأحمد، والنسائي، وأبو يعلى، والطبراني، فالبخاري والنسائي روياه من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر، ومن طريق الليث عن نافع، والترمذي وابن ماجه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، ومسلم من طريق الزهري والطبراني عن سالم عن ابن عمر، وأبو يعلى والطيالسي من طريق جويرية عن نافع عن ابن عمر، والطبراني من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر، ورواه هناد في الزهد بلفظ: إن الرجل يعرض عليه مقعده من الجنة والنار غدوة وعشية في قبره، ورواه اللالكائي في السنة بلفظ: ما من عبد يموت إلا ويعرض روحه والباقي سواء، وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا قال: فهم اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة (وليس يخفى ما في مشاهدة المقعدين من عذاب ونعيم في الحال) .

قال القرطبي: قيل: هذا العرض مخصوص بالمؤمن الذي لا يعذب وقيل: لا، ويحتمل أن المؤمن الذي يعذب يرى مقعديه جميعا في وقتين أو في وقت واحد، ثم قيل: هذا العرض إنما هو على الروح وحدها، ويجوز أن يكون عليها مع جزء من البدن ويجوز أن يكون عليها مع جميع الجسد، فترد إليه الروح كما ترد عند المسألة. اهـ .

(وعن أبي قيس) عبد الرحمن بن ثابت مولى عمرو بن العاص مات قديما سنة أربع وخمسين روى له الجماعة (قال: كنا مع علقمة) بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، مات بعد الستين، روى له الجماعة (في جنازة فقال: أما هذا فقد قامت قيامته) .

رواه الطبراني من طريق سفيان عن أبي قيس، قال: شهدت جنازة فيها علقمة فلما دفن قال: أما هذا فقد قامت قيامته (وقال علي كرم الله وجهه: حرام على نفس أن تخرج من الدنيا حتى تعلم) أنها (من أهل الجنة هي أم من أهل النار) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت من رواية رجل لم يسم عن علي موقوفا، وكذلك رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وفي رواية: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا حتى تعلم إلى أين مصيرها إلى الجنة أم إلى النار، وتقدم للمصنف بلفظ: لن يخرج أحدكم من الدنيا حتى يعلم أين مصيره وحتى يرى مقعده من الجنة أو النار (وقال أبو هريرة) -رضي الله عنه- (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات مريضا مات شهيدا ووقي فتاني القبر وغدي وريح عليه برزقه من الجنة) .

قال العراقي: رواه ابن ماجه بسند ضعيف، وقال فيه: القبور، وقال ابن أبي الدنيا: فتان. اهـ .

قلت: وفي لفظ لابن ماجه: فتنة القبر، وهكذا رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب، قال القرطبي: هذا عام في جميع الأمراض لكن يقيد بالحديث الآخر: من قتله بطنه لم يعذب في قبره، وقال النسائي: وغير المراد به الاستسقاء وقيل: الإسهال، والحكمة في ذلك أنه يموت حاضر العقل عارفا بالله تعالى فلم يحتج إلى إعادة السؤال عليه بخلاف من يموت بسائر الأمراض فإنهم تغيب عقولهم، قال السيوطي في شرح الصدور: لا حاجة إلى شيء من هذا التقييد فإن الحديث غلط فيه الراوي باتفاق الحفاظ، وإنما هو من مات مرابطا لا من مات مريضا، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات لأجل ذلك. اهـ .

قلت: وقد رواه ابن ماجه أيضا بهذا اللفظ: من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع، ورواه أحمد بلفظ: من مات مرابطا وقي فتنة القبر، وأومن من الفزع الأكبر، وغدي عليه وريح برزقه من الجنة، وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة، وروى نحوه الحكيم من حديث سلمان: من مات مرابطا في سبيل الله أجير من فتنة القبر، وجرى عليه صالح عمله الذي كان يعمل إلى يوم القيامة، ورواه البغوي وابن حبان وابن عساكر بلفظ: من مات مرابطا في سبيل الله أمن من عذاب القبر، ونمي له أجره يوم القيامة، وروى مسلم من حديث سلمان: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان، وروى الترمذي وصححه من حديث فضالة بن عبيد: كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر، وأخرجه أبو داود بلفظ: ويؤمن من فتاني القبر، وروى أحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه يجرى عليه أجر عمله حتى يبعثه الله [ ص: 382 ] ويؤمن من فتاني القبر، وروى البزار من حديث عثمان: من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه أجر عمله الصالح، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان، ويبعثه الله تعالى آمنا من الفزع الأكبر، وروى الطبراني في الأوسط حديث أبي سعيد الخدري: من توفي مرابطا وقي فتنة القبر، وأجري عليه رزقه، فهذه الأحاديث الذي سردناها دالة على أن الصواب من الحديث المتقدم: من مات مرابطا لا مريضا، وقال (مسروق) بن الأجدع الهمداني التابعي الثقة اسمه عبد الرحمن (ما غبطت أحدا ما غبطت مؤمنا في اللحد قد استراح من نصب الدنيا وأمن من عذاب الله) .

رواه ابن المبارك في الزهد، وابن أبي الدنيا في الموت، وهذا لفظ الأخير، ولفظ ابن المبارك: ما غبطت شيئا بشيء كمؤمن في لحد قد أمن من عذاب الله واستراح من أذى الدنيا، ورواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن مسعر عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن مسروق قال: ما من شيء خير للمرء من لحد قد استراح فيه من هموم الدنيا، وأمن من عذاب الله، هكذا رواه أبو نعيم في الحلية من طريقه، وفي رواية: ما من شيء خير للمؤمن، وقد روي نحو هذا القول عن عمر بن عبد العزيز رواه أبو نعيم في الحلية، وعن أبي عطية المذبوح رواه ابن المبارك في الزهد ولفظه: أنا أخبركم عمن هو أنعم منه جسد في لحد أمن من العذاب، وقد تقدم شيء من ذلك في فضل الموت (وقال يعلى بن الوليد: كنت أمشي يوما مع أبي الدرداء) -رضي الله عنه- (فقلت له: ما تحب لمن تحب؟ قال: الموت، قلت: فإن لم يمت؟ قال: يقل ماله وولده) .

رواه ابن سعد في الطبقات وابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في الزهد، قال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش بن غيلان بن بشر عن يعلى بن الوليد قال: كنت أمشي مع أبي الدرداء قال: قلت: يا أبا الدرداء، فذكره (وإنما أحب الموت لأنه لا يحبه إلا المؤمن) ; ولذلك كان غنيمته كما في حديث عائشة وتحفته كما في حديث عبد الله بن عمرو (و) لما كانت الدنيا سجن المؤمن كان (الموت إطلاق المؤمن من السجن) وقد روى ابن أبي الدنيا أنه قيل لعبد الأعلى التميمي: ما تشتهي لنفسك، ولمن تحب من أهلك؟ قال: الموت (وإنما أحب قلة المال والولد؛ لأنه فتنة وسبب للأنس بالدنيا والأنس بمن لا بد من فراقه غاية الشقاء، فكل ما سوى الله وذكره والأنس به فلا بد من فراقه عند الموت لا محالة) وقد روى ابن أبي شيبة عن عبادة بن الصامت قال: أتمنى لحبيبي أن يقل ماله ويعجل موته، وروى ابن السكن في المعرفة من حديث زرعة بن عبد الله: يحب الإنسان الحياة والموت خير لنفسه، ويحب الإنسان كثرة المال وقلة المال أقل للحساب، وروى أحمد في الزهد من حديث محمود بن لبيد: اثنتان يكرهما ابن آدم يكره الموت والموت خير له من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب (ولهذا قال عبد الله بن عمرو) بن العاص، رضي الله عنهما (إنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه أو) قال (روحه) شك من الراوي (مثل رجل كان في سجن فأخرج منه فهو يتفسح في الأرض ويتقلب فيها) .

رواه ابن المبارك في الزهد بلفظ: الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن، وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه كمثل رجل كان في سجن فأخرج منه فجعل يتقلب في الأرض ويتفسح فيها، وقال ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا غندر، حدثنا يعلى بن عبيد عن يحيى بن قمطة عن عبد الله بن عمر، وقال: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فإذا مات المؤمن يخلى سربه حيث شاء (وهذا الذي ذكره حال من تجافى عن الدنيا وتبرم بها، ولم يكن له أنس إلا بذكر الله تعالى، وكانت شواغل الدنيا تحبسه عن محبوبه ومقاساة الشهوات تؤذيه فكان في الموت خلاصه من جميع المؤذيات وانفراده بمحبوبه الذي كان به أنسه من غير عائق ولا دافع، وما أجدر ذلك بأن يكون منتهى النعيم واللذات وأكمل اللذات للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله) فقد روى النسائي وابن أبي الدنيا والطبراني من حديث عبادة بن الصامت: ما على الأرض من نفس تموت، ولها عند الله الخير تحب أن ترجع إليكم ولها نعيم الدنيا، وما فيها إلا الشهيد فإنه يحب أن يرجع فيقتل مرة أخرى لما يرى من ثواب الله له (لأنهم ما أقدموا على القتال إلا قاطعين التفاتهم عن علائق الدنيا مشتاقين إلى لقاء الله راضين بالقتل في طلب مرضاته فإن نظر إلى الدنيا فقد باعها طوعا بالآخرة والبائع لا يلتفت قلبه إلى المبيع وإن نظر إلى الآخرة فقد اشتراها وتشوق إليها فما أعظم فرحه بما اشتراه إذا رآه، وما أقل التفاته [ ص: 383 ] إلى ما باعه إذا فارقه، وتجرد القلب لحب الله قد يتفق في بعض الأحوال ولكن لا يدركه الموت عليه فيتغير والقتال سبب الموت فكان سببا لإدراك الموت على مثل هذه الحالة) وقد روى أبو نعيم في الحلية من طريق أبي المخارق عن عبد الله بن عمر قال: ألا أخبركم بأفضل الشهداء عند الله منزلة يوم القيامة الذين يلقون العدو وهم في الصف الأول فإذا واجهوا عدوهم لم يلتفت يمينا ولا شمالا واضع سيفه على عاتقه يقول: اللهم إني اخترتك اليوم بما أسلفت في الأيام الخالية فيقبل فيقتل على ذلك فذلك من الشهداء الذين يتلبطون في الغرف الأعلى من الجنة حيث شاءوا (فلهذا عظم النعيم إذ معنى النعيم أن ينال الإنسان ما يريده قال الله تعالى: ولهم ما يشتهون ) كذا في النسخ والتلاوة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم (فكان هذا أجمع لمعاني لذات الجنة، وأعظم العذاب أن يمنع الإنسان عن مراده كما قال تعالى: وحيل بينهم وبين ما يشتهون فكان هذا أجمع عبارة لعقوبات أهل جهنم، وهذا النعيم يدركه الشهيد كما انقطع نفسه من غير تأخير، وهذا أمر انكشف لأرباب القلوب بنور اليقين، وإن أردت عليه شهادة من جهة السمع فجميع أحاديث الشهداء تدل عليه) دلالة صريحة أو ضمنية (و) كذا (كل حديث يشتمل على التعبير عن منتهى نعيمهم بعبارة أخرى فقد روي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجابر) بن عبد الله الأنصاري، رضي الله عنه: (ألا أبشرك يا جابر؟ وقد كان استشهد أبوه) عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي السلمي معدود في أهل العقبة وبدر، وكان من النقباء واستشهد بأحد (قال: بلى بشرك الله بالخير، قال: إن الله أحيا أباك فأقعده بين يديه فقال: تمن علي عبدي ما شئت أعطيكه، قال: يا رب عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك فأقتل فيك مرة أخرى، قال له: إنه قد سبق مني أنك إليها لا ترجع) .

قال العراقي: ابن أبي الدنيا في كتاب الموت بإسناد فيه ضعف وللترمذي وحسنه، وابن ماجه من حديث جابر: ألا أبشرك بما لقي الله أباك؟ قال: بلى يا رسول الله، الحديث، وفيه فقال: يا عبدي تمن علي أعطك قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب سبحانه: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون. اهـ .

قلت: وكذلك رواه البيهقي وابن مردويه في التفسير، ولفظهم جميعا عن جابر قال: لقيني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا جابر ما لي أراك منكسرا؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا، فقال: ألا أبشرك بما لقي الله أباك؟ قال: بلى، قال: ما كلم الله أحدا قط إلا من رواء حجاب فحيا أباك فكلمه كفاحا، وقال: يا عبدي تمن علي أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب تعالى: قد سبق مني أنهم لا يرجعون، قال: أي رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله هذه الآية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية.

وأما حديث عائشة فرواه كذلك الحاكم في المستدرك بلفظ: ألا أبشرك أشعرت أن الله أحيا أباك؟ فساقه سياق ابن أبي الدنيا وصححه وتعقبه الذهبي، وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام، كانا قد حفر السيل عن قبرهما، وكانا في قبر واحد مما يلي السيل، فحفر عنهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما وضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسل فرجعت كما كانت وكان بين الوقتين ثنتا وأربعون سنة (وقال كعب) الأحبار، رحمه الله تعالى (يوجد رجل في الجنة يبكي فيقال له: لم تبكي وأنت في الجنة؟ قال: أبكي أني لم أقتل في الله إلا قتلة واحدة فكنت أشتهي أن أرد فأقتل فيه قتلات) ، رواه ابن أبي الدنيا في الموت .




الخدمات العلمية