الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما الآثار فقد قال الحسن رحمه الله تعالى فضح الموت الدنيا ، فلم يترك لذى لب فرحا .

وقال الربيع بن خثيم ما غائب ينتظره المؤمن خيرا له من الموت وكان يقول : لا تشعروا بي أحدا ، وسلوني إلى ربي سلا .

وكتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه : يا أخي احذر ، الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده .

وكان ابن سيرين إذا ذكر عنده الموت مات كل عضو منه .

وكان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة .

وقال إبراهيم التيمي شيئان قطعا عني لذة الدنيا : ذكر الموت ، والوقوف بين يدي الله عز وجل .

وقال كعب من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها .

وقال مطرف: رأيت فيما يرى النائم كأن قائلا يقول في وسط مسجد البصرة : قطع ذكر الموت قلوب الخائفين فوالله ما تراهم إلا والهين .

وقال أشعث: كنا ندخل على الحسن فإنما هو النار وأمر الآخرة وذكر الموت .

وقالت صفية رضي الله تعالى عنها أن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها ، فقالت أكثري : ذكر الموت يرق قلبك ، ففعلت فرق قلبها ، فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها وكان عيسى عليه السلام إذا ذكر الموت عنده يقطر جلده دما .

وكان داود عليه السلام إذا ذكر الموت والقيامة يبكي حتى تنخلع أوصاله ، فإذا ذكر الرحمة رجعت إليه نفسه .

وقال الحسن ما رأيت عاقلا قط إلا أصبته من الموت حذرا وعليه حزينا .

وقال عمر بن عبد العزيز لبعض العلماء : عظني ، فقال لست : أول خليفة تموت ، قال : زدني ، قال : ليس من آبائك أحد إلى آدم إلا ذاق الموت ، وقد جاءت توبتك ، فبكى عمر لذلك وكان الربيع بن خيثم قد حفر قبرا في داره ، فكان ينام فيه كل يوم مرات ، يستديم بذلك ذكر الموت ، وكان يقول : لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد .

وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير إن هذا الموت قد نغص على أهل النعيم نعيمهم ، فاطلبوا نعيما لا موت فيه وقال عمر بن عبد العزيز لعنبسة أكثر ذكر الموت ، فإن كنت واسع العيش ضيقه عليك ، وإن كنت ضيق العيش وسعه عليك وقال أبو سليمان الداراني قلت لأم هارون أتحبين الموت ؟ قالت : لا ، قلت : لم ؟ قالت : لو عصيت آدميا ما اشتهيت لقاءه ، فكيف أحب لقاءه وقد عصيته .

التالي السابق


(وأما الآثار فقد قال الحسن ) البصري رحمه الله تعالى: (فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحا ) . لأن ذا اللب يراها ببصيرته زائلة، والموت واقعا، فلا يفرح بشيء من زهرتها. (وقال ) أبو يزيد (الربيع بن خيثم ) الثوري الكوفي، العابد، أحد الزهاد الثمانية: (ما غائب ينتظره المؤمن خير له من الموت ) . ورواه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المبارك في الزهد، والمروزي في الجنائز، وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن شبل حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا وكيع عن سفيان عن أبيه عن أبي يعلى عن الربيع بن خيثم فذكره. وحدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا جعفر بن الصباغ حدثنا يعقوب الدورقي حدثنا الأشجعي سمعت سفيان يقول قال الربيع بن خيثم : "ارتدوا هذا الخير بالله تنالوه لا بغيره، وأكثروا ذكر هذا الموت الذي لم تذوقوا مثله، فإن الغائب إذا طالت غيبته، رجيت جيئته، وانتظره أهله، وأوشك أن يقدم عليهم". وحدثنا عبد الرحمن بن العباس [ ص: 231 ] حدثنا إبراهيم الحربي حدثنا أبو بكر حدثنا سعيد بن عبد الله عن نسير عن بكر بن ماعز قال: كان الربيع يقول: "أكثروا ذكر هذا الموت الذي لم تذوقوا قبله مثله". (وكان يقول: لا تشعروا بي أحدا، وسلوني إلى ربي سلا ) . رواه أبو نعيم في الحلية، ورواه صاحب كتاب المتفجعين عن الفريابي، قال حدثنا سفيان عن ابن حيان أن الربيع بن خيثم قال عند موته: "لا تعلموا بي أحدا، وسلوني إلى ربي سلا".

(وكتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه: يا أخي، احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده ) رواه ابن أبي الدنيا. (وكان أبو بكر محمد بن سيرين ) رحمه الله تعالى (إذا ذكر عنده الموت مات كل عضو منه ) . رواه أبو نعيم في الحلية فقال حدثنا أبو علي محمد بن أحمد حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي ح وحدثنا عبد الرحمن بن العباس حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي حدثنا إسحاق بن إسماعيل ومحمد بن عباد قالوا حدثنا سفيان بن عيينة حدثني دهير الأقطع قال كان محمد بن سيرين إذا ذكر الموت مات كل عضو منه على حدته. ورواه صاحب كتاب المتفجعين عن عبد الله بن إبراهيم بن العباس عن عثمان بن قرزاذ عن إبراهيم بن بشار عن ابن عيينة، وفيه على حياله بدل على حدته. (وكان عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى (يجمع كل ليلة الفقهاء ) عنده (فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة وما فيها من الأهوال ) والشدائد (ثم يبكون حتى كان بين أيديهم جنازة ) رواه أبو نعيم في الحلية .

(وقال ) أبو إسحاق (إبراهيم ) بن يزيد بن شريك (التيمي ) الكوفي، وكان من العباد: (شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل ) رواه ابن أبي الدنيا في الموت. (وقال كعب ) الأحبار رحمه الله تعالى: (من عرف الموت هانت عليه المصائب ) رواه ابن أبي الدنيا بلفظ: مصائب الدنيا وعمومها، رواه عن محمد بن الحسين، قال حدثنا الحارث بن خليفة حدثنا ذريد أبو سليمان عن إبراهيم بن أبي عبد الله الشامي عن كعب فذكره، ورواه أبو نعيم في الحلية من طريقه. (وقال أبو بكر مطرف ) بن معقل التميمي الشقري، بالشين المعجمة، والقاف محركة، منسوب إلى شقرة، قبيلة من تميم، وهو لقب معاوية بن الحارث بن تميم، ومطرف هذا روى عن ابن سيرين، والحسن، والشعبي، وعنه النضر بن شميل، وأبو داود، والطيالسي: (رأيت فيما يرى النائم كأن قائلا يقول في وسط مسجد البصرة: قطع ذكر الموت قلوب الخائفين فوالله ما تراهم إلا والهين ) . رواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عبد العزيز بن سليمان فقال حدثنا أبو بكر المؤذن حدثنا أحمد بن محمد بن عمر حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد حدثنا محمد بن الحسين حدثنا أبو عقيل زيد بن عقيل قال سمعت مطرفا الشقري يقول لعبد العزيز بن سليمان: "رأيت فيما يرى النائم" فذكره، وفي آخره: "فخر عبد العزيز مغشيا عليه" .

(وقال أبو ) هانئ (أشعث ) بن عبد الملك الحمراني البصري، منسوب إلى حمران، مولى عثمان بن عفان، قال يحيى بن سعيد: لم ألق أحدا يحدث عن الحسن أثبت منه، وكان عالما بمسائل الحسن الرقاق، قال شعبة: عامة ما روى يونس في الرقائق كنا نرى أنها عنه، وقال ابن سعد: كان الحسن إذا رأى الأشعث قال: هات يا أبا هانئ ما عندك، وفي طريق آخر: انشر بزك أي هات مسائلك. وقال الدارقطني: هم ثلاثة يروون عن الحسن جميعا، أحدهم الحمراني ثقة، وأشعث الحداني يعتبر به، وابن سواد الكوفي يعتبر به، وهو أضعفهم، روى له البخاري تعليقا، والباقون سوى مسلم: (كنا ندخل على الحسن ) البصري (فإنما هو النار وأمر الآخرة وذكر الموت ) رواه أبو نعيم في الحلية. (وقالت صفية ) بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية، تابعية جليلة، لها رواية، وأكثر حديثها عن عائشة: (إن امرأة اشتكت إلى عائشة- رضي الله عنها- قساوة قلبها، فقالت: أكثري من ذكر الموت يرق قلبك، ففعلت فرق قلبها، فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها ) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت .

(وكان عيسى عليه السلام إذا ذكر الموت عنده يقطر جلده دما ) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت. وروى ابن عساكر عن الشعبي قال: كان عيسى إذا ذكر عنده الساعة صاح، ويقول: لا ينبغي لابن مريم أن يذكر عنده الساعة فيسكت. وروى أبو نعيم في الحلية من طريق أبي طارق التبان قال: كان عبد العزيز بن سليمان إذا ذكر القيامة والموت صرخ [ ص: 232 ] كما تصرخ الثكلى، ويصرخ الخائفون من جوانب البحر، قال وربما رفع الميت والميتان من جوانب مجلسه. (وكان داود عليه السلام إذا ذكر الموت والقيامة يبكي حتى تنخلع أوصاله، فإذا ذكر الرحمة رجعت إليه نفسه ) . رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في الموت، عن ثابت بن صفوان عن عروة قال: كان داود عليه السلام إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله لا يشدها إلا الله، فإذا ذكر رحمته تراجعت. وروى أحمد في الزهد عن أبي العالية قال: كان دعاء داود عليه السلام: "سبحانك إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ردت إلي روحي، سبحانك إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا لي خطيئتي فكلهم عليك يدلني.

(وقال الحسن ) البصري رحمه الله تعالى: (ما رأيت عاقلا قط إلا أصبته حذرا من الموت وعليه حزينا ) . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت، وروى أبو نعيم في الحلية من طريق أبي مروان بشر الرحال عن الحسن قال: "يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيامة بين يدي الله مشهده، أن يطول حزنه". (وقال عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى (لبعض العلماء: عظني، فقال: أنت أول خليفة تموت، قال: زدني، قال: ليس من آبائك أحد إلى آدم إلا ذاق الموت، وقد جاءت توبتك، فبكى عمر لذلك ) . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت، وروى أبو نعيم في الحلية من طريق فضيل بن عياض عن السري بن يحيى عن عمر بن عبد العزيز قال: "والله إن رجلا ليس بينه وبين آدم إلا أب له قد مات لمعرق له في الموت". وروى أيضا في ترجمة عبد العزيز بن سلمان من طريق محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: "كنت أسمع أبي يقول: عجبت ممن عرف الموت كيف تقر عينه في الدنيا أم كيف تطيب بها نفسه أم كيف لا ينصدع فيها قلبه، قال: ثم يصرخ هاه هاه حتى يخر مغشيا عليه".

(وكان الربيع بن خيثم ) الثوري، الكوفي، الزاهد، (قد حفر قبرا في داره، فكان ينام فيه كل يوم مرات، يستديم بذلك ذكر الموت، وكان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد ) . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت، وروى أبو نعيم في الحلية عن الحسن هو ابن صالح قال قيل للربيع بن خيثم : يا أبا عبد الله لو جالستنا، قال: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة فسد علي. (وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير ) الحرشي، العامري، البصري، التابعي، الزاهد: (إن هذا الموت قد نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيما لا موت فيه ) . رواه أبو نعيم في الحلية عن عبد الرحمن بن العباس حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي حدثنا أبو كريب حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن مطرف قال فساقه. (وقال عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى (لعنبسة ) بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية أبي خالد الأموي، أخي عمرو الأشدق، ثقة، وكان عند الحجاج بالكوفة، مات على رأس المائة، روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود: (أكثر ذكر الموت، فإن كنت واسع العيش ضيقه عليك، وإن كنت ضيق العيش وسعه عليك ) .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا الحسن بن محمد بن كيسان حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا ابن أبي بكر حدثنا سعيد بن عامر عن أسماء بن عبيد قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال، وضيعة، أفتأذن لي أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤنته، فخرج من عنده، فلما صار عند الباب قال عمر: أبا خالد أبا خالد فرجع، فقال: أكثر من ذكر الموت، فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك. حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا محمد بن يحيي المروزي حدثنا خالد بن خراش حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن عمر قال: قال عنبسة بن سعيد: دخلت على عمر فذكر نحوه. (وقال أبو سليمان الداراني ) رحمه الله تعالى: (قلت لأم هارون ) وكانت من العارفات: (أتحبين الموت؟ قالت: لا، قلت: لم؟ قالت: لو عصيت آدميا ما اشتهيت لقاءه، فكيف أحب لقاءه وقد عصيته! ) . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت .



ومما يحسن إيراده من ذكر الآثار في فضل الموت; روى المروزي في الجنائز، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود قال: "حبذا المكروهان: الفقر، والموت". وروى [ ص: 233 ] ابن أبي شيبة، والمروزي، عن طاوس، قال: "لا يخزن دين المرء إلا حفرته". وروى ابن أبي الدنيا عن مالك بن مغول قال: "بلغني أن أول سرور يدخل على المؤمن الموت، لما يرى من كرامة الله تعالى وثوابه". وروى أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا عن ابن مسعود قال: "ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله". وروى سعيد بن منصور، وابن جرير، عن أبي الدرداء قال: ما من مؤمن إلا الموت خير له، وما من كافر إلا الموت خير له، فمن لم يصدقني فإن الله يقول: وما عند الله خير للأبرار ، ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير الآية. وروى ابن أبي شيبة في المصنف، وعبد الرزاق في تفسيره، والحاكم في المستدرك، والطبراني، والمروزي في الجنائز، عن ابن مسعود قال: "ما من نفس برة، ولا فاجرة، إلا والموت خير لها من الحياة، إن كان برا فقد قال الله تعالى: وما عند الله خير للأبرار ، وإن كان فاجرا فقد قال الله: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، الآية.

وروى ابن المبارك، وأحمد في الزهد، عن حيان بن جبلة، أن أبا ذر أو أبا الدرداء قال: "لا حبذا المكروهات الثلاث: الموت، والمرض، والفقر". وروى ابن أبي الدنيا عن جعفر الأحمر قال: "من لم يكن له في الموت خير فلا خير له في الحياة". وروى ابن سعد في الطبقات، والبيهقي في الشعب، عن أبي الدرداء قال: "أحب الفقر تواضعا لربي، وأحب الموت اشتياقا لربي، وأحب المرض تكفيرا لخطيئتي". وروى أبو نعيم في الحلية عن سفيان الثوري أنه كان إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياما، فإن سئل عن شيء قال: لا أدري لا أدري. وروى ابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، عن أبي الدرداء أنه قيل له: ما تحب لمن تحب؟ قال: الموت، قالوا: فإن لم يمت؟ قال: يقل ماله وولده. وروى ابن أبي شيبة عن عبادة بن الصامت قال: "أتمنى لحبيبي أن يقل ماله، ويعجل موته". وروى أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء قال: "ما أهدى إلي أخ صالح هدية أحب إلي من السلام، ولا بلغني خبر أعجب لي من موته".

وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن عبد العزيز التيمي قال: "قيل لعبد الأعلى التيمي: ما تشتهي لنفسك، ولمن تحب من أهلك؟ قال: الموت". وقال سهل بن عبد الله التستري: "لا يتمنى الموت إلا ثلاثة: رجل جاهل بما بعد الموت أو رجل يفر من أقدار الله تعالى أو مشتاق محب للقاء الله تعالى". وقال حيان بن الأسود: "الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب". وقال أبو عثمان: "علامة الشوق حب الموت مع الراحة". وقال بعضهم: "إن المشتاقين يحسون حلاوة الموت عند وروده لما قد كشف لهم من أن روح الوصول أحلى من الشهد". وروى ابن عساكر عن ذي النون المصري قال: "الشوق أعلى الدرجات أو أعلى المقامات، إذا بلغها العبد استبطأ الموت شوقا إلى ربه، وحبا للقائه، والنظر إليه". وروى أبو نعيم في الحلية عن ابن عبد ربه أنه قال لمكحول: "أتحب الجنة؟ قال: ومن لا يحب الجنة، قال: فأحب الموت، فإنك لن ترى الجنة حتى تموت". وروي عن عبد الله بن أبي زكريا أنه كان يقول: "لو خيرت بين أن أعمر مائة سنة في طاعة الله تعالى، وأن أقبض يومي هذا، أو في ساعتي هذه، لاخترت أن أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه شوقا إلى الله ورسوله، وإلى الصالحين من عباده".

وروى أبو نعيم، وابن عساكر، عن أحمد بن الحواري، قال: سمعت أبا عبد الله النباجي يقول: " لو خيرت بين أن تكون لي الدنيا منذ يوم خلقت أتنعم فيها حلالا لا أسأل عنها يوم القيامة، وبين أن تخرج نفسي الساعة، لاخترت أن تخرج نفسي الساعة، أما تحب أن تلقى من تطيع". وروى ابن المبارك في الزهد، وابن أبي الدنيا عن مسروق، قال: "ما غبطت شيئا بشيء كمؤمن في لحده قد أمن من عذاب الله، واستراح من أذى الدنيا". ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: "ما من شيء خير للمؤمن من لحد قد استراح من هموم الدنيا، وأمن من عذاب الله". وروى ابن المبارك في الزهد عن الهيثم بن مالك قال: كنا نتحدث عند أيفع بن عبدة، وعنده أبو عطية المذبوح، فتذكروا النعيم فقال: من أنعم الناس؟ قالوا: فلان وفلان، فقال: ما تقول يا أبا عطية؟ فقال: أنا أخبركم عمن هو أنعم منه، جسد في لحد أمن من العذاب.

وروي عن محارب بن دثار قال: "قال لي خيثمة: أيسرك الموت؟ قال: لا، قال: ما أعلم أحدا لا يسره الموت إلا منقوص". وهو عند عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد بلفظ: "فقال: إن هذا بك لنقص كبير". وروي عن أبي عبد الرحمن أن رجلا قال في مجلس [ ص: 234 ] أبي الأعور السلمي: والله ما خلق الله شيئا أحب إلي من الموت، فقال أبو الأعور: لأن أكون مثلك أحب إلي من حمر النعم. وروى ابن أبي الدنيا عن صفوان بن سليم قال: "في الموت راحة للمؤمن من شدائد الدنيا، وإن كان الموت ذا غصص وكرب". وروي عن محمد بن زياد قال: حدثت عن بعض الحكماء أنه قال: "للموت أهون على العاقل من زلة عالم غافل". وروي عن سفيان قال: "كان يقال الموت راحة العابدين" .

ومن الآثار التي يناسب إيرادها في فضل ذكر الموت، والاستعداد له، ما قال بعضهم في قوله تعالى: ولا تنس نصيبك من الدنيا هو الكفن، فهو وعظ متصل بما تقدم من قوله: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا بصرفها فيما يوصل إليها، ولا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن كما قيل:

نصيبك مما تجمع الدهر كله * رداءان تلوى فيهما وحنوط

وقال حامد اللفاف: "من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة". وقال بعضهم: "لا يدخل ذكر الموت بيتا إلا رضي أهله بما قسم لهم". قال أبو نواس:

ألا أين الذين فنوا أو ماتوا * أما والله ما ماتوا لتبقى

وقال أبو حمزة الخراساني: "من أكثر ذكر الموت حبب إليه كل باق، وبغض إليه كل فان". وروى ابن أبي الدنيا عن رجاء بن حيوة قال: "ما أكثر عبد ذكر الموت إلا ترك الفرح والحسد". وروى ابن أبي شيبة في المصنف، وأحمد في الزهد، عن أبي الدرداء قال: "من أكثر ذكر الموت قل حسده، وقل فرحه". وروى ابن أبي شيبة عن عون بن عبد الله قال: "ما أحد ينزل الموت حق منزلته إلا عبدا عد غدا ليس من أجله، كم من مستقبل يوما لا يستكمله، وراج غدا لا يبلغه، إنك لو ترى الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره". وروي عن أبي حازم قال: "كل عمل كرهت الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت".

وروى أبو نعيم في الحلية عن أبي عمران قال: قال عمر بن عبد العزيز: "من قرب الموت من قلبه استكثر ما في يديه". وروى عن القداح قال: "كان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته". وعن عبد الوهاب عن عطاء عن سعيد قال: "كان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله". وعن عمر بن ذر قال: قال عمر بن عبد العزيز: "ما أحب أن يهون علي الموت لأنه آخر ما يؤجر عليه المؤمن". وعن الأوزاعي قال: قال عمر فذكر نحوه. وروي عن جابر بن نوح قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته: "أما بعد; فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك بغض إليك كل فان، وحبب إليك كل باق، والسلام". وروي عن مجمع التيمي قال: "ذكر الموت غنى". وعن سميط قال: "من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا، ولا بسعتها". وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: "ما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عنده، وهان عليه جميع ما فيها".

وعن قتادة قال: "كان يقال: طوبى لمن ذكر ساعة الموت". وعن مالك بن دينار قال: قال حكيم: "كفى بذكر الموت للقلوب حياة للعمل". وعن أبي حازم قال: "يا ابن آدم بعد الموت يأتيك الخبر". ويروى عن علي- رضي الله عنه- قال: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". وقد نظم هذا المعنى الحافظ العراقي فقال:

وإنما الناس نيام من يمت * فهم أزال الموت عنه وسنه

وروى أبو نعيم في الحلية أن عمر بن عبد العزيز قال لميمون بن مهران: "يا ميمون ما رأى القبر إلا زيارة، ولا بد للزائر أن يرجع إلى منزله" يعني إلى الجنة أو النار. وعن رجاء بن حيوة قال: "ذكر عمر بن عبد العزيز الموت يوما فقال يتمثل:

ألم تر أن الموت أدرك من مضى * فلم ينج منه ذو جناح ولا ظفر




الخدمات العلمية